فصل: (فَصْلٌ فِي الِاسْتِثْنَاءِ):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح القدير للعاجز الفقير



.(فَصْلٌ فِي الِاسْتِثْنَاءِ):

الشَّرْحُ:
(فَصْلٌ فِي الِاسْتِثْنَاءِ).
وَهُوَ بَيَانٌ بِإِلَّا أَوْ إحْدَى أَخَوَاتِهَا أَنَّ مَا بَعْدَهَا لَمْ يَرِدْ بِحُكْمِ الصَّدْرِ، وَهَذَا يَشْمَلُ الْمُتَّصِلَ وَالْمُنْقَطِعَ حَدًّا اسْمِيًّا لِمَفْهُومِ لَفْظِ اسْتِثْنَاءٍ اصْطِلَاحًا عَلَى أَنَّهُ مُتَوَاطِئٌ، وَعَلَى أَنَّهُ حَقِيقَةٌ فِي الْإِخْرَاجِ لِبَعْضِ الْجِنْسِ مِنْ الْحُكْمِ مَجَازٌ فِيهِ لِبَعْضِ غَيْرِهِ، يُرَادُ الْكَائِنُ بَعْضُ الْجِنْسِ فِي الْمُتَّصِلِ وَيُقَيَّدُ بِغَيْرِهِ فِي الْمُنْقَطِعِ.
وَالْأَوْجَهُ كَوْنُ الْخِلَافِ فِي أَنَّ إلَّا حَقِيقَةٌ فِي الْإِخْرَاجِ لِبَعْضِ الْجِنْسِ مِنْ الْحُكْمِ فَقَطْ، وَفِيهِ مِنْ غَيْرِ الْجِنْسِ أَيْضًا بِالتَّوَاطُؤِ وَالِاشْتِرَاكِ اللَّفْظِيِّ فَإِنَّهُ أَفْيَدُ، بِخِلَافِ مَعْنَى لَفْظِ اسْتِثْنَاءٍ فَإِنَّهُ لَا طَائِلَ تَحْتَهُ بَلْ لَا حَاجَةَ إلَيْهِ، وَأُلْحِقَ الِاسْتِثْنَاءُ بِالتَّعْلِيقِ لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي مَنْعِ الْكَلَامِ مِنْ إثْبَاتِ مُوجَبِهِ، إلَّا أَنَّ الشَّرْطَ يَمْنَعُ الْكُلَّ وَالِاسْتِثْنَاءَ الْبَعْضَ، وَقَدَّمَ مَسْأَلَةً إنْ شَاءَ اللَّهُ لِمُشَابَهَتِهَا الشَّرْطَ فِي مَنْعِ الْكُلِّ، وَذَكَرَ أَدَاةَ التَّعْلِيقِ وَلَكِنَّهُ لَيْسَ عَلَى مَهْيَعَةٍ لِأَنَّهُ مَنْعٌ لَا إلَى غَايَةٍ، وَالشَّرْطُ مَنْعٌ إلَى غَايَةِ تَحَقُّقِهِ كَمَا يُفِيدُهُ: أُكْرِمُ بَنِي تَمِيمٍ إنْ دَخَلُوا، وَلِذَا لَمْ يُورِدْهُ فِي بَحْثِ التَّعْلِيقَاتِ، وَلَفْظُ الِاسْتِثْنَاءِ اسْمٌ تَوْقِيفِيٌّ، قَالَ تَعَالَى: {وَلَا يَسْتَثْنُونَ} أَيْ لَمْ يَقولوا إنْ شَاءَ اللَّهُ وَلِلْمُشَارَكَةِ فِي الِاسْمِ أَيْضًا اُتُّجِهَ ذِكْرُهُ فِي فَصْلِ الِاسْتِثْنَاءِ، وَإِنَّمَا يَثْبُتُ حُكْمُهُ فِي صِيَغِ الْإِخْبَارِ وَإِنْ كَانَ إنْشَاءَ إيجَابٍ لَا فِي الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ.
لَوْ قَالَ: أَعْتِقُوا عَبْدِي بَعْدَ مَوْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ لَا يَعْمَلُ الِاسْتِثْنَاءُ فَلَهُمْ عِتْقُهُ.
وَلَوْ قَالَ: بِعْ عَبْدِي هَذَا إنْ شَاءَ اللَّهُ كَانَ لِلْمَأْمُورِ بَيْعُهُ.
قِيلَ لِأَنَّ الْإِيجَابَ يَقَعُ مُلْزِمًا فَيَحْتَاجُ إلَى إبْطَالِهِ بِالِاسْتِثْنَاءِ، وَذَكَرَهُ لَيْسَ إلَّا ذَلِكَ، وَالْأَمْرُ لَا يَقَعُ مُلْزِمًا لِقُدْرَتِهِ عَلَى عَزْلِهِ فَلَا حَاجَةَ إلَى الِاسْتِثْنَاءِ لِيَجِبَ اعْتِبَارُ صِحَّتِهِ.
وَعَنْ الْحَلْوَانِيِّ: كُلُّ مَا يَخْتَصُّ بِاللِّسَانِ يُبْطِلُهُ الِاسْتِثْنَاءُ كَالطَّلَاقِ وَالْبَيْعِ، بِخِلَافِ مَا لَا يَخْتَصُّ بِهِ كَالصَّوْمِ لَا يَرْفَعُهُ لَوْ قَالَ: نَوَيْت صَوْمَ غَدًا إنْ شَاءَ اللَّهُ لَهُ أَدَاؤُهُ بِتِلْكَ النِّيَّةِ، وَهَلْ الشَّرْطُ فِي صِحَّتِهِ تَصْحِيحُ حُرُوفِهِ وَإِنْ لَمْ يَسْمَعْهُ أَوْ أَنْ يَسْمَعَهُ؟ يَجْرِي فِيهِ الْخِلَافُ الْمُتَقَدِّمُ فِي الْقِرَاءَةِ فِي الصَّلَاةِ.

متن الهداية:
(وَإِذَا قَالَ الرَّجُلُ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى مُتَّصِلًا لَمْ يَقَعْ الطَّلَاقُ) لِقولهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ حَلَفَ بِطَلَاقٍ أَوْ عَتَاقٍ وَقَالَ: إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى مُتَّصِلًا بِهِ فَلَا حِنْثَ عَلَيْهِ» وَلِأَنَّهُ أَتَى بِصُورَةٍ الشَّرْطِ فَيَكُونُ تَعْلِيقًا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَإِنَّهُ إعْدَامٌ قَبْلَ الشَّرْطِ وَالشَّرْطُ لَا يُعْلَمُ هَاهُنَا فَيَكُونُ إعْدَامًا مِنْ الْأَصْلِ وَلِهَذَا يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ مُتَّصِلًا بِهِ بِمَنْزِلَةِ سَائِرِ الشُّرُوطِ (وَلَوْ سَكَتَ ثَبَتَ حُكْمُ الْكَلَامِ الْأَوَّلِ) فَيَكُونُ الِاسْتِثْنَاءُ أَوْ ذِكْرُ الشَّرْطِ بَعْدَهُ رُجُوعًا عَنْ الْأَوَّلِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَإِذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ إلَخْ) وَكَذَا إذَا قَالَ: إنْ لَمْ يَشَأْ اللَّهُ أَوْ مَا شَاءَ اللَّهُ أَوْ فِيمَا شَاءَ اللَّهُ أَوْ إلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ أَوْ إنْ شَاءَ الْجِنُّ أَوْ الْحَائِطُ وَكُلُّ مَنْ لَمْ يُوقَفْ لَهُ عَلَى مَشِيئَةٍ لَمْ يَقَعْ إذَا كَانَ مُتَّصِلًا فَلَا يَفْتَقِرُ إلَى النِّيَّةِ، حَتَّى لَوْ جَرَى عَلَى لِسَانِهِ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ لَا يَقَعُ.
وَحُكِيَ عِنْدَنَا فِيهِ خِلَافٌ قَالَ خَلْفٌ: يَقَعُ، وَقَالَ أَسَدٌ لَا يَقَعُ، وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ الْمَذْهَبِ لِأَنَّ الطَّلَاقَ مَعَ الِاسْتِثْنَاءِ لَيْسَ طَلَاقًا، وَقَالَ: رَأَيْت أَبَا يُوسُفَ فِي النَّوْمِ فَسَأَلْتُهُ فَقَالَ: لَا يَقَعُ، فَقُلْت لِمَ؟ قَالَ: أَرَأَيْت لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ فَجَرَى عَلَى لِسَانِهِ أَوْ غَيْرُ طَالِقٍ أَكَانَ يَقَعُ؟ قُلْت: لَا، قَالَ كَذَا هَذَا، وَكَذَا إذَا لَمْ يَدْرِ مَا هُوَ إنْ شَاءَ اللَّهُ لِمَا ذَكَرْنَا، وَصَارَ كَسُكُوتِ الْبِكْرِ إذَا زَوَّجَهَا أَبُوهَا فَسَكَتَتْ وَلَا تَدْرِي أَنَّ السُّكُوتَ رِضًا يَمْضِي بِهِ الْعَقْدُ عَلَيْهَا.
وَفِي خَارِجِ الْمَذْهَبِ خِلَافٌ فِي النِّيَّةِ.
قِيلَ يُشْتَرَطُ نِيَّةُ الِاسْتِثْنَاءِ مِنْ أَوَّلِ الْكَلَامِ، وَقِيلَ قَبْلَ فَرَاغِهِ، وَقِيلَ: وَلَوْ بَعْدَ فَرَاغِهِ، وَقِيلَ: وَلَوْ بِالْقُرْبِ مِنْ الْكَلَامِ وَلَا يُشْتَرَطُ اتِّصَالُهَا بِهِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ مَا شَاءَ اللَّهُ يَجُوزُ كَوْنُ مَا فِيهِ مَوْصُولًا اسْمِيًّا فَمُقْتَضَاهُ أَنْ تَطْلُقَ وَاحِدَةً رَجْعِيَّةً لِأَنَّ الْغَيْبَ هُوَ مَا شَاءَ اللَّهُ مِنْ الْوَاقِعِ وَاحِدَةً أَوْ ثِنْتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا، وَلَا شَكَّ فِي أَنْتِ طَالِقٌ الْمَذْكُورُ فَصَارَ كَقولهِ أَنْتِ طَالِقٌ كَيْفَ شَاءَ اللَّهُ، وَيَحْتَمِلُ كَوْنَهَا حَرْفِيًّا: أَيْ مُدَّةَ مَشِيئَةِ اللَّهِ فَلَا تَطْلُقُ، فَالْحُكْمُ بِعَدَمِ الْوُقُوعِ بَعْدَ ظُهُورِهِ بِالْمُنَجَّزِ لَا يَخْلُو عَنْ نَظَرٍ، وَإِنَّمَا يَكُونُ الظَّاهِرُ عَدَمُ الْوُقُوعِ مَعَ الْمَشِيئَةِ إذَا كَانَ الْأَظْهَرُ كَوْنُهَا الْمَصْدَرِيَّةِ الظَّرْفِيَّةِ لِيَتَرَجَّحَ تَعْلِيقُهُ بِالْمَشِيئَةِ، لَكِنْ الثَّابِتَ لِكَثْرَةِ اسْتِعْمَالِهَا مَوْصُولًا اسْمِيًّا، ثُمَّ لَا يَقَعُ قَضَاءً وَلَا دِيَانَةً إذَا قُلْنَا بِتَسَاوِي اسْتِعْمَالَيْهَا، وَأَخْبَرَ أَنَّهُ أَرَادَ الظَّرْفَ، أَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ نِيَّةٌ فَيَنْبَغِي أَنْ يَقَعَ وَعَلِمْت أَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ إلَى نِيَّةٍ، أَمَّا لَوْ قَالَ: إنْ شَاءَ زَيْدٌ فَهُوَ تَمْلِيكٌ مِنْهُ مُعْتَبَرٌ فِيهِ مَجْلِسُ عِلْمِهِ، فَإِنْ شَاءَ فِيهِ طَلُقَتْ وَإِلَّا خَرَجَ الْأَمْرُ مِنْ يَدِهِ، وَكَذَا إلَّا أَنْ يَشَاءَ زَيْدٌ أَوْ يُرِيدُ أَوْ يَجِبُ أَوْ يَرْضَى أَوْ يَهْوَى أَوْ يَرَى أَوْ إلَّا أَنْ يَبْدُوَ لَهُ غَيْرُ ذَلِكَ تَقَيَّدَ بِمَجْلِسِ الْعِلْمِ، وَيُعْتَبَرُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ إخْبَارُ فُلَانٍ بِلِسَانِهِ لَا مَشِيئَتِهِ وَرِضَاهُ بِقَلْبِهِ لِأَنَّ الْمَشِيئَةَ وَأَخَوَاتِهَا أَمْرٌ بَاطِنٌ، وَلَهُ دَلِيلٌ ظَاهِرٌ وَهُوَ الْعِبَارَةُ فَيُقَامُ مَقَامَهُ، كَذَا فِي شَرْحِ الْجَامِعِ، وَكَذَا إذَا أَضَافَ الْمَشِيئَةَ وَالثَّلَاثَةَ بَعْدَهَا إلَيْهِ تَعَالَى بِالْبَاءِ فَقَالَ: طَالِقٌ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَإِرَادَتِهِ وَمَحَبَّتِهِ وَرِضَاهُ لَا يَقَعُ لِأَنَّهُ مَعْنَى التَّعْلِيقِ، إذْ الْبَاءُ لِلْإِلْصَاقِ، وَالْكَائِنُ فِي التَّعْلِيقِ إلْصَاقُ الْجَزَاءِ بِالشَّرْطِ وَإِنْ أَضَافَ الْأَرْبَعَةَ وَمَا بَعْدَهَا بِالْبَاءِ إلَى الْعَبْدِ كَانَ تَمْلِيكًا، وَإِنْ قَالَ بِأَمْرِهِ أَوْ بِحُكْمِهِ أَوْ بِقَضَائِهِ أَوْ بِإِذْنِهِ أَوْ بِعِلْمِهِ أَوْ بِقُدْرَتِهِ وَقَعَ فِي الْحَالِ سَوَاءٌ أَضَافَهُ إلَيْهِ تَعَالَى أَوْ إلَى الْعَبْدِ لِأَنَّهُ يُرَادُ بِهِ فِي مِثْلِهِ التَّنْجِيزُ عُرْفًا، وَإِنْ قَالَ بِحَرْفِ اللَّامِ يَقَعُ فِي الْوُجُوهِ كُلِّهَا، سَوَاءٌ أَضَافَهُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى أَوْ إلَى الْعَبْدِ لِأَنَّهُ تَعْلِيلٌ لِلْإِيقَاعِ كَقولهِ طَالِقٌ لِدُخُولِك الدَّارَ.
وَإِنْ قَالَ بِحَرْفِ: فِي. إنْ أَضَافَهُ إلَيْهِ تَعَالَى لَا يَقَعُ فِي الْوُجُوهِ كُلِّهَا إلَّا فِي قولهِ طَالِقٌ فِي عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى فَإِنَّهُ يَقَعُ فِي الْحَالِ لِأَنَّ فِي بِمَعْنَى الشَّرْطِ فَيَكُونُ تَعْلِيقًا بِمَا لَا يُوقَفُ عَلَيْهِ فَلَا يَقَعُ إلَّا فِي الْعِلْمِ لِأَنَّهُ يَذْكُرُ لِلْمَعْلُومِ وَهُوَ وَاقِعٌ، وَلِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ نَفْيُهُ عَنْهُ تَعَالَى بِحَالٍ فَكَانَ تَعْلِيقًا بِأَمْرٍ مَوْجُودٍ فَيَكُونُ تَنْجِيزًا، وَلَا يَلْزَمُ الْقُدْرَةُ لِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْهَا هُنَا التَّقْدِيرُ، وَقَدْ يُقَدِّرُ شَيْئًا وَقَدْ لَا يُقَدِّرُهُ، حَتَّى لَوْ أَرَادَ حَقِيقَةَ قُدْرَتِهِ تَعَالَى يَقَعُ فِي الْحَالِ كَذَا فِي الْكَافِي.
وَالْأَوْجَهُ أَنْ يُرَادَ الْعِلْمُ عَلَى مَفْهُومِهِ، وَإِذَا كَانَ فِي عِلْمِهِ تَعَالَى أَنَّهَا طَالِقٌ فَهُوَ فَرْعٌ تَحَقَّقَ طَلَاقًا، وَكَذَا نَقول الْقُدْرَةُ عَلَى مَفْهُومِهَا وَلَا يَقَعُ، لِأَنَّ مَعْنَى أَنْتِ طَالِقٌ فِي قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى: أَيْ فِي قُدْرَتِهِ تَعَالَى وُقُوعُهُ وَذَلِكَ لَا يَسْتَلْزِمُ سَبْقَ تَحَقُّقِهِ.
يُقَالُ لِلْفَاسِدِ الْحَالِ فِي قُدْرَةِ اللَّهِ صَلَاحُهُ مَعَ عَدَمِ تَحَقُّقُهُ فِي الْحَالِ.
وَفِيهِ أَيْضًا: وَإِنْ أَضَافَ إلَى الْعَبْدِ بِفِي كَانَ تَمْلِيكًا فِي الْأَرْبَعِ الْأُوَلِ وَمَا بِمَعْنَاهَا مِنْ الْهَوَى وَالرُّؤْيَةِ تَعْلِيقًا فِي السِّتَّةِ الْأَوَاخِرِ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ مَا ذَكَرَهُ فِي التَّنْجِيزِ بِقولهِ فِي عِلْمِ اللَّهِ يَأْتِي فِي قولهِ فِي إرَادَتِهِ وَمَحَبَّتِهِ وَرِضَاهُ فَيَلْزَمُ الْوُقُوعُ، بِخِلَافِ تَوْجِيهِنَا.
وَلَوْ قَالَ: طَالِقٌ وَاحِدَةً إنْ شَاءَ اللَّهُ وَثِنْتَيْنِ إنْ لَمْ يَشَأْ اللَّهُ لَمْ يَقَعْ شَيْءٌ لِأَنَّ الْأَوَّلَ لَحِقَهُ الِاسْتِثْنَاءُ فَبَطَلَ، وَالثَّانِي بَاطِلٌ لِأَنَّهُ لَوْ وَقَعَ لَشَاءَ اللَّهُ فَيُعْدَمُ الشَّرْطُ فَلَمْ يَقَعْ فَكَانَ فِي تَصْحِيحِهِ إبْطَالُهُ؛ وَلَوْ قَالَ: طَالِقٌ وَاحِدَةً الْيَوْمَ إنْ شَاءَ اللَّهُ وَإِنْ لَمْ يَشَأْ فَثِنْتَيْنِ فَمَضَى الْيَوْمُ وَلَمْ يُطَلِّقْهَا وَقَعَ ثِنْتَانِ، لِأَنَّهُ لَوْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى الْوَاحِدَةَ فِي الْيَوْمِ لَطَلَّقَهَا فِيهِ فَيَثْبُتُ أَنَّهُ لَمْ يَشَأْ اللَّهُ الْوَاحِدَةَ فَتَحَقَّقَ شَرْطُ وُقُوعِ الثِّنْتَيْنِ وَهُوَ عَدَمُ مَشِيئَتِهِ تَعَالَى الْوَاحِدَةَ بِخِلَافِ السَّابِقَةِ لِأَنَّ شَرْطَ وُقُوعِ الثِّنْتَيْنِ فِيهَا عَدَمُ مَشِيئَتِهَا فَلَا يُمْكِنُ وُقُوعُهَا مَعَ عَدَمِ مَشِيئَتِهِ تَعَالَى عَزَّ وَجَلَّ، وَالْمَسْأَلَتَانِ مَذْكُورَتَانِ فِي النَّوَازِلِ وَقَالَ فِي الْمُنْتَقَى: لَوْ قَالَ: طَالِقٌ الْيَوْمَ ثِنْتَيْنِ إنْ شَاءَ اللَّهُ وَإِنْ لَمْ يَشَأْ فِي الْيَوْمِ فَطَالِقٌ ثَلَاثًا فَمَضَى الْيَوْمُ وَلَمْ يُطَلِّقْهَا طَلُقَتْ ثَلَاثًا وَوَجْهُهُ مَا بَيَّنَّاهُ.
وَقَالَ: لَوْ لَمْ يُقَيِّدْ بِالْيَوْمِ فِي الْيَمِينَيْنِ فَهُوَ إلَى الْمَوْتِ، فَإِنْ لَمْ يُطَلِّقْهَا طَلُقَتْ قَبْلَ الْمَوْتِ ثَلَاثًا بِلَا فَصْلٍ، وَقَدْ ظَنَّ أَنَّهُ مُخَالِفُ مَسْأَلَةِ النَّوَازِلِ وَالْجَوَابُ أَنَّ مَسْأَلَةَ الْمُنْتَقَى تَعْلِيقُ الثَّلَاثِ بِعَدَمِ مَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى التَّطْلِيقَتَيْنِ وَقَدْ وُجِدَ الْمُعَلَّقُ عَلَيْهِ قَبْلَ الْمَوْتِ، إذْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى التَّطْلِيقَتَيْنِ لِأَوْقَعَهُمَا الزَّوْجُ.
وَفِي مَسْأَلَةِ النَّوَازِلِ تَعْلِيقُ التَّطْلِيقَتَيْنِ بِعَدَمِ مَشِيئَةِ اللَّهِ إيَّاهُمَا فَلَا يَقَعَانِ أَبَدًا.
قولهُ: (لِقولهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ حَلَفَ بِطَلَاقٍ» إلَخْ) غَرِيبٌ بِهَذَا اللَّفْظِ، وَمَعْنَاهُ مَرْوِيٌّ.
أَخْرَجَ أَصْحَابُ السُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ مِنْ حَدِيثِ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيُّ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَقَالَ: إنْ شَاءَ اللَّهُ فَقَدْ اسْتَثْنَى» لَفْظُ النَّسَائِيّ، وَلَفْظُ التِّرْمِذِيِّ «فَلَا حِنْثَ عَلَيْهِ» وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ.
وَقَدْ رَوَى نَافِعٌ عَنْ ابْنَ عُمَرَ مَوْقُوفًا، وَعَنْ سَالِمٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ مَوْقُوفًا، وَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا رَفَعَهُ غَيْرَ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيُّ.
وَقَالَ إسْمَاعِيلُ بْنُ إبْرَاهِيمَ: كَانَ أَيُّوبُ أَحْيَانًا يَرْفَعُهُ وَأَحْيَانًا لَا يَرْفَعُهُ.اهـ.
وَهَذَا كُلُّهُ غَيْرُ قَادِحٍ فِي الرَّفْعِ لِمَا قَدَّمْنَا فِي نَظَائِرِهِ غَيْرَ مَرَّةٍ مِنْ تَعَارُضِ الْوَقْفِ وَالرَّفْعِ وَاعْلَمْ أَنَّ مَالِكًا رَحِمَهُ اللَّهُ يَقول بِوُقُوعِ الطَّلَاقِ مَعَ لَفْظِ إنْ شَاءَ اللَّهُ.
وَالِاسْتِدْلَالُ بِالْحَدِيثِ الْمُورَدِ فِي الْيَمِينِ لَا يَتِمُّ فِي مُجَرَّدِ أَنْتِ طَالِقٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ، وَسَنُبَيِّنُ إنْ شَاءَ اللَّهُ ذَلِكَ فِي كِتَابِ الْأَيْمَانِ.
وَأَمَّا مَا أَخْرَجَ ابْنُ عَدِيٍّ فِي الْكَامِلِ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ أَبِي يَحْيَى الْكَعْبِيِّ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَبِي رَوَّادٍ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ طَالِقٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى أَوْ لِغُلَامِهِ أَنْتَ حُرٌّ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى أَوْ عَلَى الْمَشْيِ إلَى بَيْتِ اللَّهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ» وَهُوَ مَعْلُولٌ بِإِسْحَاقَ، هَذَا نُقِلَ تَضْعِيفُهُ عَنْ الدَّارَقُطْنِيِّ وَابْنِ حِبَّانَ وَلَمْ يُعْلَمْ تَوْثِيقُهُ عَنْ غَيْرِهِمَا.
وَأَخْرَجَ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ طَلَّقَ وَاسْتَثْنَى فَلَهُ ثُنْيَاهُ» ضَعَّفَهُ عَبْدُ الْحَقِّ بِحُمَيْدٍ، وَتَعَدُّدُ طُرُقِ الضَّعِيفِ عِنْدَنَا وَإِنْ كَانَ يَخْرُجُهُ إلَى الْحَسَنِ إذَا لَمْ يَكُنْ ضَعْفُهُ بِالْوَضْعِ، لَكِنْ هَذَا الْقَدْرُ مِنْ التَّعَدُّدِ لَا يَكْفِي.
قولهُ: (وَلِأَنَّهُ أَتَى بِصُورَةِ الشَّرْطِ) أَيْ بِحَرْفِهِ دُونَ حَقِيقَتِهِ لِأَنَّ مَشِيئَةَ اللَّهِ تَعَالَى إمَّا ثَابِتَةٌ قَطْعًا أَوْ مُنْتَفِيَةٌ قَطْعًا فَلَا تَرَدُّدَ فِي حُكْمِهَا، وَمَا يَكُونُ كَذَلِكَ فَهُوَ تَعْلِيقٌ (فَيَكُونُ تَعْلِيقًا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ) يَعْنِي مِنْ حَيْثُ الصُّورَةُ.
(وَأَنَّهُ إعْدَامٌ) أَيْ التَّعْلِيقُ إعْدَامُ الْعَلِيَّةِ قَبْلَ وُجُودِ الشَّرْطِ.
قولهُ: (وَالشَّرْطُ لَا يُعْلَمُ هُنَا فَيَكُونُ إعْدَامًا مِنْ الْأَصْلِ) يُشِيرُ إلَى أَنَّ التَّعْلِيقَ بِالْمَشِيئَةِ إبْطَالٌ، وَهُوَ قول أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى لِقولهِ تَعَالَى: {حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} وَقَالَ:
إذَا شَابَ الْغُرَابُ أَتَيْت أَهْلِي ** وَعَادَ الْقَارُ كَاللَّبَنِ الْحَلِيبِ

وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ تَعْلِيقٌ مُلَاحَظَةً لِلصِّيغَةِ وَهُمَا لَاحَظَا الْمَعْنَى وَهُوَ أَوْلَى، وَقَدْ نُقِلَ الْخِلَافُ بَيْنَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ عَلَى عَكْسِهِ.
وَثَمَرَتُهُ تَظْهَرُ فِيمَا إذَا قَدَّمَ الشَّرْطَ فَقَالَ إنْ شَاءَ اللَّهُ أَنْتِ طَالِقٌ تَطْلُقُ عَلَى التَّعْلِيقِ لِعَدَمِ الْفَاءِ فِي مَوْضِعِ وُجُوبِهَا فَلَا يَتَعَلَّقُ وَلَا تَطْلُقُ عَلَى الْإِبْطَالِ.
وَفِي شَرْحِ الْمَجْمَعِ لِلْمُصَنَّفِ عَكْسُ هَذَا، وَهُوَ غَلَطٌ فَاجْتَنِبْهُ، بِخِلَافِ قولهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ فَأَنْتِ طَالِقٌ وَفِيمَا إذَا جَمَعَ بَيْنَ يَمِينَيْنِ فَقَالَ أَنْتِ طَالِقٌ إنْ دَخَلْت الدَّارَ وَعَبْدِي حُرٌّ إنْ كَلَّمْت زَيْدًا إنْ شَاءَ اللَّهُ، فَعَلَى التَّعْلِيقِ يَعُودُ إلَى الْجُمْلَةِ الثَّانِيَةِ، فَلَوْ كَلَّمَتْ زَيْدًا لَا يَقَعُ، وَلَوْ دَخَلَتْ الدَّارَ يَقَعُ، وَعَلَى الْإِبْطَالِ إلَى الْكُلِّ لِعَدَمِ الْأَوْلَوِيَّةِ بِالْإِبْطَالِ، فَلَوْ كَلَّمَتْ زَيْدًا أَوْ دَخَلَتْ الدَّارَ لَا يَقَعُ، وَلَوْ أَدْخَلَهُ فِي الْإِيقَاعَيْنِ فَقَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ وَعَبْدِي حُرٌّ إنْ شَاءَ اللَّهُ يَنْصَرِفُ إلَى الْكُلِّ فَلَا تَطْلُقُ وَلَا يُعْتَقُ بِالْإِجْمَاعِ، أَمَّا عِنْدَهُمَا فَلِمَا قُلْنَا مِنْ عَدَمِ الْأَوْلَوِيَّةِ بِالْإِبْطَالِ.
وَأَمَّا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ فَلِأَنَّهُ كَالشَّرْطِ وَالشَّرْطُ إذَا دَخَلَ عَلَى إيقَاعَيْنِ يَتَعَلَّقَانِ بِهِ، وَفِيمَا إذَا حَلَفَ لَا يَحْلِفُ بِالطَّلَاقِ وَقَالَهُ حَنِثَ عَلَى التَّعْلِيقِ لَا الْإِبْطَالِ.
وَفِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ: الْفَتْوَى عَلَى قول أَبِي يُوسُفَ إلَّا أَنَّهُ عَزَى إلَيْهِ الْإِبْطَالَ فَتَحَصَّلَ أَنَّ الْفَتْوَى عَلَى أَنَّهُ إبْطَالٌ.
قولهُ: (وَلَوْ سَكَتَ ثَبَتَ حُكْمُ الْكَلَامِ الْأَوَّلِ) أَيْ إذَا سَكَتَ كَثِيرًا بِلَا ضَرُورَةٍ بِخِلَافِهِ بِجُشَاءٍ أَوْ تَنَفُّسٍ وَإِنْ كَانَ لَهُ مِنْهُ بُدٌّ، بِخِلَافِ مَا لَوْ سَكَتَ قَدْرَ التَّنَفُّسِ ثُمَّ اسْتَثْنَى لَا يَصِحُّ الِاسْتِثْنَاءُ لِلْفَصْلِ وَلِلْفَصْلِ اللَّغْوِ تَطْلُقُ ثَلَاثًا فِي قولهِ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا وَثَلَاثًا إنْ شَاءَ اللَّهُ، عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ خِلَافًا لَهُمَا، لِأَنَّ التَّكْرَارَ لِلتَّأْكِيدِ شَائِعٌ فَيُحْمَلُ عَلَيْهِ كَقولهِ طَالِقٌ وَاحِدَةً إنْ شَاءَ اللَّهُ وَهُوَ يَقول قولهُ وَثَلَاثًا لَغْوٌ فَيَقَعُ فَاصِلًا فَيَبْطُلُ الِاسْتِثْنَاءُ فَتَطْلُقُ ثَلَاثًا، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ عَبْدُهُ حُرٌّ وَحُرٌّ إنْ شَاءَ اللَّهُ.
وَلَوْ قَالَ: حُرٌّ حُرٌّ بِلَا وَاوٍ وَاسْتَثْنَى لَا يُعْتَبَرُ فَاصِلًا بِلَا خِلَافٍ لِظُهُورِ التَّأْكِيدِ.
وَقِيَاسُهُ إذَا كَرَّرَ ثَلَاثًا بِلَا وَاوٍ أَنْ يَكُونَ مِثْلَهُ.
وَلَوْ قَالَ: عَبْدُهُ حُرٌّ وَعَتِيقٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ صَحَّ فَلَا يُعْتَقُ، بِخِلَافِ حُرٌّ وَحُرٌّ لِأَنَّ الْعَطْفَ التَّفْسِيرِيَّ إنَّمَا يَكُونُ بِغَيْرِ لَفْظِ الْأَوَّلِ فَلَا يَصِحُّ، وَحُرٌّ لِقولهِ حُرٌّ تَفْسِيرًا فَكَانَ فَاصِلًا بِخِلَافِ حُرٌّ وَعَتِيقٌ، وَمِثْلُ ثَلَاثًا وَثَلَاثًا لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ وَطَالِقٌ وَطَالِقٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ طَلُقَتْ ثَلَاثًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ.
وَعِنْدَهُمَا يَصِحُّ الِاسْتِثْنَاءُ كَقولهِ طَالِقٌ أَرْبَعًا إنْ شَاءَ اللَّهُ.
وَلَوْ قَالَ: طَالِقٌ وَاحِدَةً وَثَلَاثًا إنْ شَاءَ اللَّهُ صَحَّ الِاسْتِثْنَاءُ اتِّفَاقًا لِأَنَّهُ لَيْسَ لَغْوًا لِأَنَّهُ يَثْبُتُ بِهِ تَكْمِيلُ الْأَوَّلِ.
وَلَوْ قَالَ: ثَلَاثًا بَوَائِنَ أَوْ أَلْبَتَّةَ لَا يَصِحُّ الِاسْتِثْنَاءُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لِأَنَّهُ مَعَ الثَّلَاثِ لَغْوٌ.
وَعَنْ مُحَمَّدٍ يَصِحُّ هَذَا وَيَتَرَاءَى خِلَافٌ فِي الْفَصْلِ بِالذِّكْرِ الْقَلِيلِ، فَإِنَّهُ ذَكَرَ فِي النَّوَازِلِ: لَوْ قَالَ: وَاَللَّهِ لَا أُكَلِّمُ فُلَانًا أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ إنْ شَاءَ اللَّهُ هُوَ مُسْتَثْنٍ دِيَانَةً لَا قَضَاءً.
وَفِي الْفَتَاوَى: لَوْ أَرَادَ أَنْ يُحَلِّفَ رَجُلًا وَيَخَافَ أَنْ يَسْتَثْنِيَ فِي السِّرِّ يُحَلِّفُهُ وَيَأْمُرُهُ أَنْ يَذْكُرَ عَقِيبَ الْيَمِينِ مَوْصُولًا سُبْحَانَ اللَّهِ أَوْ غَيْرَهُ مِنْ الْكَلَامِ.
وَالْأَوْجَهُ أَنْ لَا يَصِحَّ الِاسْتِثْنَاءُ بِالْفَصْلِ بِالذِّكْرِ، وَلَوْ كَانَ بِلِسَانِهِ ثِقَلٌ وَطَالَ تَرَدُّدُهُ ثُمَّ قَالَ: إنْ شَاءَ اللَّهُ أَوْ أَرَادَ أَنْ يَقول فَسَدَ إنْسَانٌ فَاهُ سَاعَةً ثُمَّ أَطْلَقَهُ فَاسْتَثْنَى مُتَّصِلًا بِرَفْعِهِ صَحَّ.
وَعَنْ هِشَامٍ: سَأَلْت مُحَمَّدًا عَمَّنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يَسْتَثْنِيَ فَأَمْسَكَتْ فَاهُ قَالَ: يَلْزَمُهُ الطَّلَاقُ قَضَاءً وَدِيَانَةً: يَعْنِي إذَا لَمْ يَسْتَثْنِ بَعْدَ التَّخْلِيَةِ، وَلَا يَكْتَفِي بِذَلِكَ الْفَصْلِ، وَاشْتِرَاطُ الِاتِّصَالِ قول جَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ مِنْهُمْ الْأَرْبَعَةُ.
وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ جَوَازُهُ إلَى سَنَةٍ.
وَعَنْهُ أَبَدًا.
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: إلَى أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، وَعَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ تَقَيَّدَ بِالْمَجْلِسِ وَهُوَ قول الْأَوْزَاعِيِّ اسْتِدْلَالًا بِحَدِيثِ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَام: «لَأَطُوفَنَّ اللَّيْلَةَ عَلَى تِسْعِينَ امْرَأَةً كُلٌّ تَلِدُ غُلَامًا فَقَالَ لَهُ صَاحِبُهُ: يَعْنِي الْمَلَكَ، قُلْ: إنْ شَاءَ اللَّهُ، فَنَسِيَ إلَى آخِرِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَوْ قَالَهَا لَقَاتَلُوا جَمِيعًا» قُلْنَا: يَحْتَمِلُ قول الْمَلَكِ لَهُ قَبْلَ فَرَاغِهِ، وَقولهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَوْ قَالَهَا»: يَعْنِي مُتَّصِلًا.
وَاسْتَدَلَّ الْمُطْلِقُونَ بِظَوَاهِرَ مِنْهَا أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي مَكَّةَ «لَا يُخْتَلَى خَلَاهَا» الْحَدِيثُ، فَقَالَ لَهُ الْعَبَّاسُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إلَّا الْإِذْخِرَ، فَسَكَتَ ثُمَّ قَالَ: «إلَّا الْإِذْخِرَ» وَمِنْهَا «أَنَّهُ قَالَ فِي أَسْرَى بَدْرٍ: لَا يَفْلِتُ أَحَدٌ مِنْهُمْ إلَّا بِفِدَاءٍ أَوْ ضَرْبَةِ عُنُقٍ، فَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: إلَّا سُهَيْلَ بْنَ الْبَيْضَاءَ، فَقَالَ: إلَّا سُهَيْلَ بْنَ الْبَيْضَاءِ» وَمَا أُجِيبَ بِهِ عَنْ هَذَيْنِ بِأَنَّهُ كَانَ عَلَى جِهَةِ النَّسْخِ دُفِعَ بِأَنَّهُ بِإِلَّا وَهِيَ تُؤْذِنُ بِاتِّصَالِ مَا بَعْدَهَا بِمَا قَبْلَهَا، وَلَيْسَ بِلَازِمٍ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ الرَّفْعُ بِنَفْسِ لَفْظِ الْقَائِلِ إيذَانًا بِأَنَّهُ وَافَقَ الشَّرْعَ الْمُتَجَدِّدَ، وَفِي الْعُرْفِيَّاتِ مِثْلُ هَذَا كَثِيرٌ فَيُقَدَّرُ لَهُ جُمْلَةٌ تُشَاكِلُ الْأُولَى مَدْلُولٌ عَلَيْهِ بِهَا كَأَنَّهُ قَالَ: لَا يُخْتَلَى خَلَاهَا إلَّا الْإِذْخِرَ.
وَمِنْهَا مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «وَاَللَّهِ لَأَغْزُوَنَّ قُرَيْشًا وَاَللَّهِ لَأَغْزُوَنَّ قُرَيْشًا، ثُمَّ سَكَتَ ثُمَّ قَالَ: إنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ لَمْ يَغْزُهُمْ» وَيُجَابُ بِأَنَّ كَوْنَهُ لَمْ يَغْزُهُمْ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُكَفِّرْ وَلَمْ يَحْنَثْ، وَهُوَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ حَلَفَ أَنَّهُ لَا يَحْلِفُ عَلَى يَمِينٍ فَيَرَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا إلَّا أَتَى الَّتِي هِيَ خَيْرٌ وَكَفَّرَ عَنْهَا.
فَحِينَ رَأَى أَنَّ عَدَمَ غَزْوِهِمْ خَيْرٌ لَمْ يَفْعَلْ مَا حَلَفَ عَلَيْهِ.
وَمِنْهَا إطْلَاقُ قولهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ السَّابِقِ «فَلَا حِنْثَ عَلَيْهِ» وَالْجَوَابُ أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى الِاتِّصَالِ بِالْعُرْفِ الْعَمَلِيِّ، لِأَنَّ عُرْفَ جَمِيعِ النَّاسِ وَصْلُ الِاسْتِثْنَاءِ لَا فَصْلُهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ فِي لَفْظِ الْحَدِيثِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ، فَكَيْفَ وَلَفْظُهُ يَدُلُّ عَلَيْهِ حَيْثُ قَالَ بِالْفَاءِ الدَّالَّةِ عَلَى الْوَصْلِ وَالتَّعْقِيبِ بِلَا مُهْلَةٍ «مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَقَالَ: إنْ شَاءَ اللَّهُ» ثُمَّ يُوجِبُهُ أَيْضًا اللَّوَازِمُ الْمَذْكُورَةُ فِي الْأَصْلِ مِنْ أَنَّهُ يَسْتَلْزِمُ أَنْ لَا يُحْكَمَ بِوُقُوعِ طَلَاقٍ وَلَا عَتَاقٍ وَلَا إقْرَارٍ بِمَالٍ وَلَا مَا لَا يُحْصَى مِنْ اللَّوَازِمِ الْبَاطِلَةِ، وَبِذَلِكَ أَخَافَ أَبُو حَنِيفَةَ الْمَنْصُورَ حِينَ وَشَى بِهِ أَعْدَاؤُهُ إلَيْهِ بِأَنَّهُ يَرُدُّ رَأْيَ جَدِّك ابْنِ عَبَّاسٍ فِي جَوَازِ الِاسْتِثْنَاءِ الْمُنْفَصِلِ، فَقَالَ لَهُ مَا مَعْنَاهُ: إنَّ مُخَالِفَتَهُ فِيهَا تَحْصِينُ الْخِلَافَةِ عَلَيْك وَمَنْعُ خُرُوجِ الْمُحَالِفِينَ لَك مِنْ الْخُرُوجِ عَلَيْك، وَإِلَّا جَازَ لَهُمْ أَنْ يَسْتَثْنُوا إذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِك.
وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ كَمَذْهَبِنَا فِي أَنَّهُ إذَا قَالَ مُتَّصِلًا بِقولهِ طَالِقٌ أَوْ حُرَّةٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ وَالْعَتَاقُ.
وَقَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ عَنْهُ: يَتَنَجَّزَانِ لِأَنَّهُ عَلَّقَهُمَا بِشَرْطٍ مُحَقَّقٍ، لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَشَأْ اللَّهُ كُلًّا مِنْ طَلَاقِهَا وَعَتَاقَهَا لَمْ يُمْكِنْهُ التَّلَفُّظُ بِهِ، وَيُوَضِّحُهُ أَنَّهُ إذَا أَرَادَ صُدُورَ اللَّفْظِ مِنْهُ فَقَدْ شَاءَ اللَّهُ صُدُورَهُ، وَإِنْ أَرَادَ وُجُودَ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ فَقَدْ حَكَمَتْ الشَّرِيعَةُ أَنَّهُ إذَا صَدَرَ اللَّفْظُ وَجَبَ كُلٌّ مِنْهُمَا، وَإِنْ أَرَادَ مَا يَكُونُ مِنْ الْمَشِيئَةِ فِيمَا بَعْدُ فَمَشِيئَتُهُ قَدِيمَةٌ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ فَظَنُّهُ أَنَّهَا تَتَجَدَّدُ مُحَالٌ.
وَالْحُجَّةُ لَنَا مَا رَوَيْنَا وَبَيَّنَّا مِنْ الْمَعْنَى.
وَالْجَوَابُ عَنْ مُتَمَسَّكِهِ أَنَّهُ لَمْ يُعَلِّقْهُ بِمُحَقَّقٍ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ الِاطِّلَاعُ عَلَى مَا فِي مَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَنَخْتَارُ أَنَّهُ أَرَادَ تَعْلِيقَ وُجُودِ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَقولهُ فَقَدْ حَكَمَتْ الشَّرِيعَةُ إلَى آخِرِهِ لَيْسَ عَلَى إطْلَاقِهِ، إذْ التَّعْلِيقَاتُ مِنْ نَحْوِ أَنْتِ طَالِقٌ إنْ قَدِمَ زَيْدٌ أَوْ دَخَلْت الدَّارَ وُجِدَ فِيهِ لَفْظُ الطَّلَاقِ وَلَمْ تَحْكُمْ الشَّرِيعَةُ بِوُقُوعِهِ فِي الْحَالِ بِالْإِجْمَاعِ وَمَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ.
قولهُ: (فَيَكُونُ الِاسْتِثْنَاءُ أَوْ ذِكْرُ الشَّرْطِ إلَخْ) إنَّمَا نَوْعُهُ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ عَلَى قول مُحَمَّدٍ اسْتِثْنَاءٌ، وَعَلَى قول أَبِي يُوسُفَ تَعْلِيقٌ عَلَى أَحَدِ وَجْهَيْ النَّقْلِ عَنْهُمَا، وَقَرِيبٌ مِنْ الِاسْتِثْنَاءِ لَوْ قَالَ: إنْ دَخَلْت فَلِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَتَصَدَّقَ بِمِائَةٍ مَثَلًا، قَالَ فِي النَّوَازِلِ: هَذَا قَرِيبٌ مِنْ الِاسْتِثْنَاءِ لِأَنَّ مِنْ الْأَمْثَالِ مَا لَيْسَ بِهِ حَقِيقَةٌ، وَلِأَنَّ الْمِثْلَ تَشْبِيهٌ وَلَا يَكُونُ فِي التَّشْبِيهِ إيجَابُ الْمَالِ، قَالَ: وَبِهِ نَأْخُذُ إلَّا أَنْ يُرِيدَ الْإِيجَابَ عَلَى نَفْسِهِ.
فُرُوعٌ:
طَلَّقَ أَوْ خَلَعَ ثُمَّ ادَّعَى الِاسْتِثْنَاءَ أَوْ الشَّرْطَ وَلَا مُنَازِعَ لَا إشْكَالَ فِي أَنَّ الْقول قولهُ، وَكَذَا إذَا كَذَّبَتْهُ الْمَرْأَةُ فِيهِ ذَكَرَهُ فِي الْحَاوِي لِلْإِمَامِ مَحْمُودٍ الْبُخَارِيِّ وَلَوْ شَهِدَ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ طَلَّقَ أَوْ خَالَعَهَا بِغَيْرِ الِاسْتِثْنَاءِ أَوْ قَالَا: لَمْ يَسْتَثْنِ قُبِلَتْ، وَهَذِهِ مِنْ الْمَسَائِلِ الَّتِي تُقْبَلُ فِيهَا الشَّهَادَةُ عَلَى النَّفْيِ، فَإِنْ لَمْ يَشْهَدَا عَلَى النَّفْيِ بَلْ قَالَا: لَمْ نَسْمَعْ مِنْهُ غَيْرَ لَفْظَةِ الطَّلَاقِ وَالْخُلْعِ وَالزَّوْجُ يَدَّعِي الِاسْتِثْنَاءَ.
فَفِي الْمُحِيطِ الْقول قولهُ.
وَفِي فَوَائِدِ شَمْسِ الْإِسْلَامِ الْأُوزْجَنْدِيِّ: لَا يَسْمَعُ دَعْوَى الِاسْتِثْنَاءِ إذَا عَرَفَ الطَّلَاقَ بِالْبَيِّنَةِ بَلْ إذَا عَرَفَ بِإِقْرَارِهِ، وَمِثْلُهُ إذَا قَالَ لِعَبْدِهِ: أَعْتَقْتُك أَمْسِ وَقُلْت: إنْ شَاءَ اللَّهُ لَا يَعْتِقُ.
وَفِي الْفَتَاوَى لِلنَّسَفِيِّ: لَوْ ادَّعَى الِاسْتِثْنَاءَ وَقَالَتْ: بَلْ طَلَّقَنِي فَالْقول لَهَا وَلَا يُصَدَّقُ الزَّوْجُ إلَّا بِبَيِّنَةٍ، بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ لَهَا: قُلْت لَك: أَنْتِ طَالِقٌ إنْ دَخَلْت فَقَالَتْ: طَلَّقَنِي مُنَجَّزًا الْقول قولهُ.
وَفِي الْفَتَاوَى الصُّغْرَى: إذَا ذُكِرَ الْجُعْلُ لَا تُسْمَعُ دَعْوَى الِاسْتِثْنَاءِ وَالطَّلَاقُ عَلَى مَالٍ كَالْخَلْعِ.
وَنَقَلَ نَجْمُ الدِّينِ النَّسَفِيُّ عَنْ شَيْخِ الْإِسْلَامِ أَبِي الْحَسَنِ أَنَّ مَشَايِخَنَا أَجَابُوا فِي دَعْوَى الِاسْتِثْنَاءِ فِي الطَّلَاقِ أَنْ لَا يُصَدَّقَ الزَّوْجُ إلَّا بِبَيِّنَةٍ لِأَنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ وَقَدْ فَسَدَ حَالُ النَّاسِ.
وَاَلَّذِي عِنْدِي أَنْ يَنْظُرَ، فَإِنْ كَانَ الرَّجُلُ مَعْرُوفًا بِالصَّلَاحِ وَالشُّهُودُ لَا يَشْهَدُونَ عَلَى النَّفْيِ يَنْبَغِي أَنْ يُؤْخَذَ بِمَا فِي الْمُحِيطِ مِنْ عَدَمِ الْوُقُوعِ تَصْدِيقًا لَهُ، وَإِنْ عُرِفَ بِالْفِسْقِ أَوْ جُهِلَ حَالُهُ يَنْبَغِي أَنْ لَا يُؤْخَذَ بِقول الْمَانِعِ لِغَلَبَةِ الْفُسَّاقِ فِي هَذَا الزَّمَانِ.
وَلَوْ طَلَّقَ فَشَهِدَ اثْنَانِ أَنَّك قَدْ اسْتَثْنَيْت وَهُوَ غَيْرُ ذَاكِرٍ إنْ كَانَ بِحَيْثُ إذَا غُصِبَ لَا يَدْرِي مَا يَقول وَسِعَهُ الْأَخْذُ بِشَهَادَتِهِمَا وَإِلَّا لَا يَأْخُذُ بِهَا.

متن الهداية:
قَالَ رَضِيَ اللَّهُ تعالى عَنْهُ:
(وَكَذَا إذَا مَاتَتْ قَبْلَ قولهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى) لِأَنَّ بِالِاسْتِثْنَاءِ خَرَجَ الْكَلَامُ مِنْ أَنْ يَكُونَ إيجَابًا وَالْمَوْتُ يُنَافِي الْمُوجِبَ دُونَ الْمُبْطِلِ، بِخِلَافِ مَا إذَا مَاتَ الزَّوْجُ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَّصِلْ بِهِ الِاسْتِثْنَاءُ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَكَذَا إذَا مَاتَتْ) مَعْطُوفٌ عَلَى قولهِ وَإِذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ مُتَّصِلًا لَمْ يَقَعْ الطَّلَاقُ.
وَقولهُ وَالْمَوْتُ يُنَافِي إلَى آخِرِهِ جَوَابٌ عَنْ مُقَدَّرٍ هُوَ أَنَّ الْمَوْتَ يُنَافِي الْوَاقِعَ مِنْ الطَّلَاقِ، حَتَّى لَوْ قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ أَوْ طَالِقٌ ثَلَاثًا فَمَاتَتْ قَبْلَ الْوَصْفِ أَوْ الْعَدَدِ لَا يَقَعُ فَيَنْبَغِي أَنْ يُنَافِيَ الِاسْتِثْنَاءَ وَهُوَ الْمُبْطِلُ فَيَقَعُ الطَّلَاقُ.
أَجَابَ بِأَنَّ الْمَوْتَ يُنَافِي الْمُوجِبَ فَيَبْطُلُ بِهِ وَيُنَاسِبُ الِاسْتِثْنَاءَ فَلَا يَبْطُلُ بِهِ.
قولهُ: (بِخِلَافِ مَا لَوْ مَاتَ الزَّوْجُ) قَبْلَ الِاسْتِثْنَاءِ وَهُوَ يُرِيدُهُ وَيَعْلَمُ إرَادَتَهُ بِأَنْ ذَكَرَ لِآخِرِ قَصْدِهِ قَبْلَ التَّلَفُّظِ بِالطَّلَاقِ، وَقول مَنْ قَالَ: يَحْتَمِلُ كَذِبَهُ عَلَى الرَّجُلِ فِي ذَلِكَ أَوْ أَنْ يَبْدُوَ لَهُ فَيَتْرُكَهُ لَيْسَ بِشَيْءٍ لِأَنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ، وَلِأَنَّهُ يَجِبُ تَصْدِيقُهُ فِيهِ، ثُمَّ الْوَاقِعُ الْوُقُوعُ فَبَحْثُهُ هَذَا إذَا كَانَ لِإِثْبَاتِ عَدَمِ الْوُقُوعِ فَقَدْ خَرَقَ الْإِجْمَاعَ إذَا اكْتَفَى فِي إثْبَاتِ حُكْمِ الِاسْتِثْنَاءِ بِنِيَّةِ الِاسْتِثْنَاءِ وَإِلَّا فَلَا فَائِدَةَ لَهُ غَيْرُ اللَّجَاجِ.

متن الهداية:
(وَإِنْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إلَّا وَاحِدَةً طَلُقَتْ ثِنْتَيْنِ، وَإِنْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إلَّا ثِنْتَيْنِ طَلُقَتْ وَاحِدَةً) وَالْأَصْلُ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ تَكَلُّمٌ بِالْحَاصِلِ بَعْدَ الثُّنْيَا هُوَ الصَّحِيحُ، وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ تَكَلَّمَ بِالْمُسْتَثْنَى مِنْهُ، إذْ لَا فَرْقَ بَيْنَ قول الْقَائِلِ لِفُلَانِ عَلَيَّ دِرْهَمٌ وَبَيْنَ قولهِ عَشَرَةٌ إلَّا تِسْعَةً فَيَصِحُّ اسْتِثْنَاءُ الْبَعْضِ مِنْ الْجُمْلَةِ لِأَنَّهُ يَبْقَى التَّكَلُّمُ بِالْبَعْضِ بَعْدَهُ، وَلَا يَصِحُّ اسْتِثْنَاءُ الْكُلِّ مِنْ الْكُلِّ لِأَنَّهُ لَا يَبْقَى بَعْدَهُ شَيْءٌ لِيَصِيرَ مُتَكَلَّمًا بِهِ وَصَارِفًا لِلَّفْظِ إلَيْهِ، وَإِنَّمَا يَصِحُّ الِاسْتِثْنَاءُ إذَا كَانَ مَوْصُولًا بِهِ كَمَا ذَكَرْنَا مِنْ قَبْلُ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَفِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ ثِنْتَانِ فَيَقَعَانِ وَفِي الثَّانِي وَاحِدَةٌ، فَتَقَعُ وَاحِدَةٌ وَلَوْ قَالَ: إلَّا ثَلَاثًا يَقَعُ الثَّلَاثُ لِأَنَّهُ اسْتِثْنَاءُ الْكُلِّ مِنْ الْكُلِّ فَلَمْ يَصِحَّ الِاسْتِثْنَاءُ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَلَوْ قَالَ: إلَّا ثِنْتَيْنِ طَلُقَتْ وَاحِدَةً) وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ لَا يَصِحُّ الِاسْتِثْنَاءُ لِأَنَّهُ اسْتَثْنَى الْأَكْثَرَ وَهُوَ قول طَائِفَةٍ مِنْ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ، وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ.
قَالُوا: لَمْ تَتَكَلَّمْ الْعَرَبُ بِهِ وقوله تَعَالَى: {إنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إلَّا مَنْ اتَّبَعَكَ مِنْ الْغَاوِينَ} وَالْغَاوُونَ الْأَكْثَرُونَ.
قَالَ: تَعَالَى: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} لَا دَلِيلَ فِيهِ لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مُنْقَطِعٌ، إذْ الْمُرَادُ بِعِبَادِي الْخُلَّصُ هَكَذَا اسْتَقَرَّ الِاسْتِعْمَالُ الْقُرْآنِيُّ، عَلَى أَنَّ هَذِهِ النِّسْبَةَ لِلتَّشْرِيفِ فَلَمْ يَدْخُلْ الْغَاوُونَ.
قُلْنَا: لَا نُسَلِّمُ عَدَمَ ثُبُوتِهِ لُغَةً وَمَا ذَكَرْتُمْ مِنْ التَّأْوِيلِ فِي الْآيَةِ مَمْنُوعٌ وَلَوْ سُلِّمَ مَعَ مَا فِيهِ، فَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا يَرْوِيهِ عَنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ: «يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ جَائِعٌ إلَّا مَنْ أَطْعَمْتُهُ، يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ عَارٍ إلَّا مَنْ كَسَوْتُهُ».
وَلَوْ سُلِّمَ فَعَدَمُ السَّمَاعِ فِي تَرْكِيبٍ مُعَيَّنٍ لَا يَسْتَلْزِمُ عَدَمَ صِحَّةِ اسْتِعْمَالِهِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَمْ يُسْمَعْ لَهُ مِائَةٌ إلَّا ثُمُنًا وَسُدُسَ ثُمُنٍ وَسَائِرَ الْكُسُورِ، وَيَجُوزُ اسْتِعْمَالُهَا، وَهَذَا لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ بَيَانُ أَنَّ الْمُسْتَثْنَى لَمْ يَرِدْ بِالصَّدْرِ.
فَحَاصِلُ التَّرْكِيبِ مِنْ الْمُسْتَثْنَى وَالْمُسْتَثْنَى مِنْهُ أَنَّهُ تَكَلَّمَ بِالْبَاقِي بَعْدَ الْمُسْتَثْنَى، وَقولهُمْ إخْرَاجٌ عَنْ الصَّدْرِ إلَى آخِرِهِ تَجَوُّزٌ لِأَنَّ حَقِيقَةَ الْإِخْرَاجِ مُتَعَذِّرَةٌ لِأَنَّهَا تَسْتَدْعِي سَبْقَ الدُّخُولِ، فَإِنْ اُعْتُبِرَ الدُّخُولُ فِي التَّنَاوُلِ فَالِاسْتِثْنَاءُ لَا يُفِيدُ الْإِخْرَاجَ مِنْهُ لِأَنَّهُ بَاقٍ بَعْدَ الِاسْتِثْنَاءِ، لِأَنَّ تَنَاوُلَ اللَّفْظِ بَعْلَةِ وَضْعِهِ لِتَمَامِ الْمَعْنَى وَهِيَ قَائِمَةٌ مُطْلَقًا فَلَا يُتَصَوَّرُ الْإِخْرَاجُ مِنْهَا، وَإِنْ اُعْتُبِرَ الدُّخُولُ فِي الْإِرَادَةِ بِالْحُكْمِ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ كُلُّ اسْتِثْنَاءٍ نَسْخًا، وَيَلْزَمُ أَنْ لَا يَصِحَّ فِي نَحْوِ قوله تَعَالَى: {فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إلَّا خَمْسِينَ عَامًا} مِنْ الْإِخْبَارَاتِ، لِأَنَّ الْمُتَكَلِّمَ حِينَئِذٍ إمَّا أَنْ يَكُونَ كَاذِبًا فِي إرَادَةِ عُمُومِ الصَّدْرِ بِالْحُكْمِ حَيْثُ لَمْ يَكُنْ فِي الْوَاقِعِ، أَوْ فِي الِاسْتِثْنَاءِ إنْ كَانَ هُوَ الْمُنْتَفِيَ، أَوْ غَالِطًا فِي أَحَدِهِمَا وَيَسْتَحِيلَانِ فِي حَقِّهِ تَعَالَى، فَلَزِمَ بِالضَّرُورَةِ أَنَّهُ بَيَانُ أَنَّ مَا بَعْدَ إلَّا لَمْ يَرِدْ بِالْحُكْمِ، ثُمَّ هَلْ يَكُونُ مُرَادًا بِالصَّدْرِ: أَعْنِي الْعَامَّ أَوْ الْكُلَّ، ثُمَّ أَخْرَجَ ثُمَّ حَكَمَ عَلَى الْبَاقِي، أَوْ أُرِيدَ ابْتِدَاءً بِالصَّدْرِ مَا سِوَى مَا بَعْدَ إلَّا وَإِلَّا قَرِينَتُهُ خِلَافٌ لَا يُوجِبُ خِلَافًا فِيمَا ذَكَرْنَا أَنَّ حَاصِلَ تَرْكِيبِ الِاسْتِثْنَاءِ تَكَلُّمُهُ بِالْبَاقِي: أَيْ حُكْمُهُ عَلَيْهِ، وَحَقَّقْنَا فِي الْأُصُولِ أَنَّ مَعْنَى الْقول الْأَوَّلِ أَنَّهُ أُرِيدَ عَشَرَةٌ وَحُكِمَ عَلَى سَبْعَةٍ فِي قولهِ عَلَيَّ عَشَرَةٌ إلَّا ثَلَاثَةً، فَإِرَادَةُ الْعَشَرَةِ بِعَشَرَةٍ بَاقٍ بَعْدَ الْحُكْمِ، وَإِلَّا فَهُوَ الْمَذْهَبُ الْآخَرُ بِزِيَادَةِ تَكَلُّفٍ، ثُمَّ مَا ذَكَرْنَا مِنْ تَحْقِيقِ دَلَالَتِهِ لَا يَسْتَلْزِمُ كَوْنَ عَشَرَةٌ إلَّا ثَلَاثَةً اسْمًا مُرَكَّبًا لِمَعْنَى سَبْعَةٍ كَمَا نُسِبَ إلَى الْقَاضِي الْبَاقِلَّانِيِّ، عَلَى أَنَّ التَّحْقِيقَ أَنَّ قولهُ هُوَ أَحَدُ الْمَذْهَبَيْنِ كَمَا حَقَّقْنَاهُ فِي الْأُصُولِ، بَلْ مُرَادُهُ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ مِنْ قولهِ إذْ لَا فَرْقَ بَيْنَ قول الْقَائِلِ عَلَيَّ دِرْهَمٌ وَعَشَرَةٌ إلَّا تِسْعَةً.
وَقولهُ هُوَ الصَّحِيحُ احْتِرَازٌ مِنْ قول مَنْ قَالَ إخْرَاجٌ، وَفِيهِ مَعْنَى الْمُعَارَضَةِ لِاسْتِلْزَامِهِ فِي الْإِخْبَارِ مَا ذَكَرْنَا، وَنُسِبَ إلَى الشَّافِعِيَّةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ، فَإِنَّهُمْ مُصَرِّحُونَ بِأَنَّهُ مِنْ الْمُخَصِّصَاتِ، وَالتَّخْصِيصُ بَيَانُ أَنَّ الْمُخَصَّصَ لَمْ يَكُنْ مُرَادًا، أَوْ قَالُوهُ عَلَى تَأْوِيلِهِ بِظَاهِرِ اللَّفْظِ وَهُوَ الظَّاهِرُ لِأَنَّ مَسْأَلَةَ الِاسْتِثْنَاءِ مِنْ النَّفْيِ إثْبَاتٌ يُوجِبُ الْقول بِالْمُعَارَضَةِ لِأَنَّهَا تُوجِبُ حُكْمَيْنِ عَلَى الثَّلَاثَةِ مَثَلًا فِي ضِمْنِ الْعَشَرَةِ بِالْإِثْبَاتِ وَبَعْدَ إلَّا بِالنَّفْيِ، لَكِنْ لَا شَكَّ فِي أَنَّهُ بِحَسَبِ الظَّاهِرِ لَا حَقِيقَةَ لِلْإِسْنَادَيْنِ فِيهَا وَإِلَّا كَانَ تَنَاقُضًا، وَحِينَئِذٍ فَالثَّابِتُ صُورَةُ الْمُعَارَضَةِ بَيْنَ حُكْمِ الصَّدْرِ وَمَا بَعْدَ إلَّا، وَتَرَجَّحَ الثَّانِي فَيَجِبُ حَمْلُ الْمَرْجُوحِ عَلَيْهِ كَمَا هُوَ لِكُلِّ مُعَارَضَةٍ تَرَجَّحَ فِيهَا أَحَدُ الْمُتَعَارِضَيْنِ، فَظَهَرَ أَنَّهُ لَمْ يُحْكَمْ فِي الصَّدْرِ إلَّا عَلَى سَبْعَةٍ.
قولهُ: (وَلَا يَصِحُّ اسْتِثْنَاءُ الْكُلِّ مِنْ الْكُلِّ) قِيلَ: لِأَنَّهُ رُجُوعٌ بَعْدَ التَّقَرُّرِ وَهُوَ لَا يَجُوزُ.
وَدُفِعَ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَصَحَّ فِيمَا يَقْبَلُ الرُّجُوعَ وَهُوَ الْوَصِيَّةُ، لَكِنَّهُ لَا يَجُوزُ فِيهِ أَيْضًا لَوْ قَالَ: أَوْصَيْت لِفُلَانٍ بِثُلُثِ مَالِي إلَّا ثُلُثَ مَالِي لَا يَصِحُّ الِاسْتِثْنَاءُ فَعُلِمَ أَنَّهُ لِغَيْرِهِ، وَهُوَ مَا ذَكَرَ فِي الْكِتَابِ مِنْ أَنَّهُ حِينَئِذٍ لَا يَبْقَى بَعْدَهُ شَيْءٌ يَصِيرُ مُتَكَلِّمًا بِهِ، وَتَرْكِيبُ الِاسْتِثْنَاءِ لَمْ يُوضَعْ إلَّا لِلتَّكَلُّمِ بِالْبَاقِي بَعْدَ الثُّنْيَا لَا لِنَفْيِ الْكُلِّ كَمَا يُفِيدُهُ التَّبَادُرُ مَعَ الِاتِّفَاقِ عَلَى نَفْيِ أَنَّهُ لِنَفْيِ الْكُلِّ، بَلْ يُفِيدُ ذَلِكَ قولهُ لَيْسَ لَهُ شَيْءٌ مِنْ الْعَشَرَةِ وَنَحْوُهُ وَاسْتِقْرَاءُ اسْتِعْمَالَاتِ الْعَرَبِ تُفِيدُهُ وَمَا حُكِيَ عَنْ بَعْضِهِمْ مِنْ تَجْوِيزِهِ يَجِبُ حَمْلُهُ عَلَى كَوْنِ الْكُلِّ مُخْرَجًا بِغَيْرِ لَفْظِ الصَّدْرِ أَوْ مُسَاوِيهِ كَعَبِيدِي أَحْرَارٌ إلَّا مَمَالِيكِي فَيَعْتِقُونَ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي الْمَبْسُوطِ وَقَاضِي خَانْ وَزِيَادَاتِ الْمُصَنِّفِ فَلَوْ قَالَ: نِسَائِي طَوَالِقُ إلَّا زَيْنَبَ وَعَمْرَةَ وَفَاطِمَةَ وَحَفْصَةَ لَا تَطْلُقُ وَاحِدَةٌ مِنْهُنَّ.
وَفِي الْبَقَّالِيِّ لَوْ قَالَ: كُلُّ امْرَأَةٍ لِي طَالِقٌ إلَّا هَذِهِ وَلَيْسَ لَهُ امْرَأَةٌ غَيْرُهَا لَا تَطْلُقُ.
وَفِي الذَّخِيرَةِ لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إلَّا وَاحِدَةً وَوَاحِدَةً وَوَاحِدَةً بَطَلَ الِاسْتِثْنَاءُ وَوَقَعَ الطَّلَاقُ الثَّلَاثُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَهُمَا يَقَعُ ثِنْتَانِ.
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ وَاحِدَةً وَهُوَ قول زُفَرَ، فَكَانَ أَبَا حَنِيفَةَ يَرَى تَوَقُّفَ صِحَّةِ الْأُولَى إلَى أَنْ يَظْهَرَ أَنَّهُ مُسْتَغْرِقٌ أَوَّلًا، وَهُمَا يَرَيَانِ اقْتِصَارَ صِحَّتِهِ عَلَى الْأُولَى، وَزُفَرُ يَرَى اقْتِصَارَهُ عَلَى الْأُولَى وَالثَّانِيَةِ، وَقول أَبِي حَنِيفَةَ أَوْجَهُ لِأَنَّ الصَّدْرَ مُتَوَقِّفٌ عَلَى الْإِخْرَاجِ.
وَلَوْ قَالَ: طَالِقٌ وَاحِدَةً وَوَاحِدَةً وَوَاحِدَةً إلَّا ثَلَاثًا بَطَلَ الِاسْتِثْنَاءُ اتِّفَاقًا لِعَدَمِ تَعَدُّدٍ يَصِحُّ مَعَهُ إخْرَاجُ شَيْءٍ.
وَلَوْ قَالَ: وَاحِدَةً وَثِنْتَيْنِ إلَّا ثِنْتَيْنِ أَوْ اثْنَتَيْنِ وَوَاحِدَةً إلَّا اثْنَتَيْنِ يَقَعُ الثَّلَاثُ، وَكَذَا ثِنْتَيْنِ وَوَاحِدَةً إلَّا وَاحِدَةً، لِأَنَّهُ فِي الْأَوَّلَيْنِ إخْرَاجُ الثِّنْتَيْنِ مِنْ الثِّنْتَيْنِ أَوْ الْوَاحِدَةِ، وَفِي الثَّالِثَةِ وَاحِدَةً مِنْ وَاحِدَةٍ فَلَا يَصِحُّ، بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ طَالِقٌ وَاحِدَةً وَثِنْتَيْنِ إلَّا وَاحِدَةً حَيْثُ تَطْلُقُ ثِنْتَيْنِ لِصِحَّةِ إخْرَاجِ الْوَاحِدَةِ مِنْ الثِّنْتَيْنِ.
وَالْأَصْلُ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ إنَّمَا يَنْصَرِفُ إلَى مَا يَلِيهِ، وَإِذَا تَعَقَّبَ جَمَلًا قَيَّدَ الْأَخِيرَةَ مِنْهَا، وَكَمَا قَيَّدْنَا بُطْلَانَ الْمُسْتَغْرَقِ بِمَا إذَا كَانَ بِلَفْظِ الصَّدْرِ أَوْ مُسَاوِيهِ كَذَلِكَ يَجِبُ تَقْيِيدُهُ بِمَا إذَا لَمْ يَكُنْ بَعْدَ الْمُسْتَغْرِقَ اسْتِثْنَاءٌ آخَرُ يَكُونُ جَبْرًا لِلصَّدْرِ، فَإِنْ كَانَ صَحَّ، فَإِنَّهُ ذَكَرَ فِي فَتَاوَى الْوَلْوَالِجِيِّ: لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إلَّا ثَلَاثًا إلَّا وَاحِدَةً طَلُقَتْ وَاحِدَةً.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ إذَا تَعَدَّدَ الِاسْتِثْنَاءُ بِلَا وَاوٍ كَانَ الْكُلُّ إسْقَاطًا مِمَّا يَلِيهِ، فَيَلْزَمُ أَنَّ كُلَّ فَرْدٍ إسْقَاطٌ مِنْ الصَّدْرِ وَكُلَّ شَفْعٍ جَبْرٌ لَهُ، فَإِذَا قَالَ: طَالِقٌ ثَلَاثًا إلَّا اثْنَتَيْنِ إلَّا وَاحِدَةً كَانَ الْوَاقِعُ ثِنْتَيْنِ لِأَنَّك أَسْقَطْت مِنْ الثَّلَاثِ ثِنْتَيْنِ أَوَّلًا فَصَارَ الْحَاصِلُ وَاحِدَةً، ثُمَّ أَسْقَطْت مِنْ السَّاقِطِ مِنْ الصَّدْرِ وَاحِدَةً فَجُبِرَ بِهَا الصَّدْرُ فَصَارَ الْبَاقِي ثِنْتَيْنِ، فَقَدْ أَخْرَجَ مِنْ الثَّلَاثِ الْمُسْتَثْنَاةِ وَاحِدَةً فَصَارَتْ ثِنْتَيْنِ ثُمَّ أَخْرَجَهُمَا مِنْ الثَّلَاثِ الصَّدْرِ فَصَارَ الْبَاقِي وَاحِدَةً، وَهَذَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ الثَّلَاثَ الْمُسْتَثْنَاةَ مِنْ الثَّلَاثِ لَمْ تَبْطُلْ بَلْ تَتَوَقَّفُ إلَى أَنْ يَظْهَرَ اسْتِثْنَاءٌ مِنْهَا فَيَصِحُّ أَوَّلًا فَيَبْطُلُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَأَصْلُ صِحَّةِ الِاسْتِثْنَاءِ مِنْ الِاسْتِثْنَاءِ قوله تَعَالَى: {إلَّا آلَ لُوطٍ إنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ إلَّا امْرَأَتَهُ} وَمِنْ فُرُوعِهَا الْمَعْرُوفَةِ لَهُ عَلَيَّ عَشَرَةٌ إلَّا تِسْعَةً إلَّا ثَمَانِيَةً إلَّا سَبْعَةً إلَّا سِتَّةً إلَّا خَمْسَةً إلَّا أَرْبَعَةً إلَّا ثَلَاثَةً إلَّا ثِنْتَيْنِ إلَّا وَاحِدَةً تَلْزَمُهُ خَمْسَةٌ.
وَلَوْ قَالَ ثِنْتَيْنِ وَأَرْبَعًا إلَّا ثَلَاثًا يَقَعُ الثَّلَاثُ ذَكَرَهُ الْقُدُورِيُّ.
وَأَصْلُهُ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ تَصَرُّفٌ فِي اللَّفْظِ أَوَّلًا، وَيُسْتَتْبَعُ الْحُكْمُ عَلَى ذَلِكَ التَّقْدِيرِ لَا فِي الْحُكْمِ ابْتِدَاءً، فَلَوْ أَوْقَعَ أَكْثَرَ مِنْ الثَّلَاثِ ثُمَّ اسْتَثْنَى كَانَ الِاسْتِثْنَاءُ مِنْ الْكُلِّ، وَلِهَذَا لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ أَرْبَعًا إلَّا ثَلَاثًا تَقَعُ وَاحِدَةً، أَوْ عَشَرَةً إلَّا تِسْعَةً طَلُقَتْ وَاحِدَةً، أَوْ خَمْسًا إلَّا وَاحِدَةً يَقَعُ الثَّلَاثُ.
وَفِي الْمُنْتَقَى: طَالِقٌ ثَلَاثًا وَثَلَاثًا إلَّا أَرْبَعًا فَهِيَ ثَلَاثٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَزُفَرَ لِأَنَّهُ يَصِيرُ قولهُ وَثَلَاثًا فَاصِلًا لَغْوًا فَاسْتَثْنَى الْأَكْثَرَ فَيَقَعُ الْكُلُّ.
وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَقَعُ ثِنْتَانِ وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ قول مُحَمَّدٍ كَأَنَّهُ قَالَ: سِتًّا إلَّا أَرْبَعًا.
وَمَا ذَكَرَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَنَّهُ يَنْوِي، فَإِنْ قَالَ عَنِيت ثِنْتَيْنِ مِنْ الثَّلَاثِ الْأُوَلِ وَثِنْتَيْنِ مِنْ الثَّلَاثِ الْأَخِيرَةِ يَصِحُّ الِاسْتِثْنَاءُ، وَإِلَّا فَلَا خَارِجَ عَنْ قَانُونِ الِاسْتِثْنَاءِ وَلَمْ يَذْكُرْ النِّيَّةَ، كَذَلِكَ الْحَلْوَانِيُّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَلَا فِي الْمُنْتَقَى.
وَلَوْ قَالَ: طَالِقٌ ثَلَاثًا إلَّا وَاحِدَةً أَوْ ثِنْتَيْنِ طُولِبَ بِالْبَيَانِ، فَإِنْ مَاتَ قَبْلَهُ طَلُقَتْ وَاحِدَةً فِي رِوَايَةِ ابْنِ سِمَاعَةَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ وَهُوَ قول مُحَمَّدٍ وَهُوَ الصَّحِيحُ، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى ثِنْتَانِ، وَمَا قِيلَ إنَّ هَذِهِ الرِّوَايَةَ تُنَاسِبُ أَصْلَ أَبِي يُوسُفَ، يَعْنِي فِي مَنْعِ إخْرَاجِ الْأَكْثَرِ فَمِمَّا لَا يَنْبَغِي لِأَنَّ تِلْكَ رِوَايَةٌ عَنْهُ لَا ظَاهِرُ مَذْهَبِهِ.
نَعَمْ هَذِهِ الرِّوَايَةُ تُنَاسِبُ تِلْكَ الرِّوَايَةَ.
وَجْهُ الصَّحِيحِ أَنَّهُ وَقَعَ الشَّكُّ فِي الثَّانِيَةِ فَلَا يَقَعُ بِالشَّكِّ فَتَقَعُ وَاحِدَةً.
فَرْعٌ:
إخْرَاجُ بَعْضِ التَّطْلِيقَةِ لَغْوٌ بِخِلَافِ إيقَاعِهِ.
فَلَوْ قَالَ: طَالِقٌ ثَلَاثًا إلَّا نِصْفَ تَطْلِيقَةٍ وَقَعَ الثَّلَاثُ وَهُوَ قول مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْمُخْتَارُ، وَقِيلَ عَلَى قول أَبِي يُوسُفَ: ثِنْتَانِ لِأَنَّ التَّطْلِيقَةَ لَا تَتَجَزَّأُ فِي الْإِيقَاعِ فَكَذَا فِي الِاسْتِثْنَاءِ فَكَأَنَّهُ قَالَ إلَّا وَاحِدَةً.
وَالْجَوَابُ أَنَّ فِي الْإِيقَاعِ إنَّمَا لَا يَتَجَزَّأُ لِمَعْنًى فِي الْمَوْقِعِ وَهُوَ لَمْ يُوجَدْ فِي الِاسْتِثْنَاءِ فَيَتَجَزَّأُ فِيهِ فَصَارَ كَلَامُهُ عِبَارَةً عَنْ تَطْلِيقَتَيْنِ وَنِصْفٍ فَتَطْلُقُ ثَلَاثًا بَابُ طَلَاقِ الْمَرِيضِ.

متن الهداية:
(وَإِذَا طَلَّقَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ طَلَاقًا بَائِنًا فَمَاتَ وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ وَرِثَتْهُ، وَإِنْ مَاتَ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فَلَا مِيرَاثَ لَهَا) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: لَا تَرِثُ فِي الْوَجْهَيْنِ لِأَنَّ الزَّوْجِيَّةَ قَدْ بَطَلَتْ بِهَذَا الْعَارِضِ وَهِيَ السَّبَبُ وَلِهَذَا لَا يَرِثُهَا إذَا مَاتَتْ.
وَلَنَا أَنَّ الزَّوْجِيَّةَ سَبَبُ إرْثِهَا فِي مَرَضِ مَوْتِهِ وَالزَّوْجُ قَصَدَ إبْطَالَهُ فَيُرَدُّ عَلَيْهِ قَصْدُهُ بِتَأْخِيرِ عَمَلِهِ إلَى زَمَانِ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْهَا، وَقَدْ أَمْكَنَ لِأَنَّ النِّكَاحَ فِي الْعِدَّةِ يَبْقَى فِي حَقِّ بَعْضِ الْآثَارِ فَجَازَ أَنْ يَبْقَى فِي حَقِّ إرْثِهَا عَنْهُ، بِخِلَافِ مَا بَعْدَ الِانْقِضَاءِ لِأَنَّهُ لَا إمْكَانَ، وَالزَّوْجِيَّةُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ لَيْسَتْ بِسَبَبٍ لِإِرْثِهِ عَنْهَا فَتَبْطُلُ فِي حَقِّهِ خُصُوصًا إذَا رَضِيَ بِهِ.
الشَّرْحُ:
(بَابُ طَلَاقِ الْمَرِيضِ) لَمَّا فَرَغَ مِنْ طَلَاقِ الصَّحِيحِ بِأَقْسَامِهِ مِنْ التَّنْجِيزِ وَالتَّعْلِيقِ وَالصَّرِيحِ وَالْكِنَايَةِ وَكُلًّا وَجُزْءًا شَرَعَ فِي بَيَانِ طَلَاقِ الْمَرِيضِ إذْ الْمَرَضُ مِنْ الْعَوَارِضِ، وَتَصَوُّرُ مَفْهُومِهِ ضَرُورِيٌّ إذْ لَا شَكَّ أَنَّ فَهْمَ الْمُرَادِ مِنْ لَفْظِ الْمَرَضِ أَجْلَى مِنْ فَهْمِهِ مِنْ قولنَا مَعْنًى يَزُولُ بِحُلُولِهِ فِي بَدَنِ الْحَيِّ اعْتِدَالُ الطَّبَائِعِ الْأَرْبَعِ، بَلْ ذَلِكَ يَجْرِي مَجْرَى التَّعْرِيفِ بِالْأَخْفَى.
قولهُ: (فِي مَرَضِ مَوْتِهِ) احْتِرَازٌ عَمَّا لَوْ صَحَّ مِنْ ذَلِكَ الْمَرَضِ بَعْدَ مَا طَلَّقَهَا ثُمَّ مَاتَ وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ لَا يَكُونُ لَهُ حُكْمُ مَرَضِ الْمَوْتِ فَلَا تَرِثُهُ، وَقَيَّدَ بِالْبَائِنِ لِأَنَّ فِي الرَّجْعِيِّ يَرِثُهُ وَتَرِثُهُ فِي الْعِدَّةِ وَإِنْ طَلَّقَ فِي الصِّحَّةِ لِقِيَامِ النِّكَاحِ.
قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ أَنَّ فِي طَلَاقٍ يَمْلِكُ الرَّجْعَةَ بَعْدَ الدُّخُولِ يَتَوَارَثَانِ فِي الْعِدَّةِ.
وَأَجْمَعُوا أَنَّهُ لَوْ طَلَّقَهَا فِي الصِّحَّةِ فِي كُلِّ طُهْرٍ وَاحِدَةً ثُمَّ مَاتَ أَحَدُهُمَا لَا يَرِثُهُ الْآخَرُ، وَبِالْعِدَّةِ لِأَنَّهَا لَا تَرِثُهُ إذَا مَاتَ بَعْدَ انْقِضَائِهَا، خِلَافًا لِمَالِكٍ فِي قولهِ تَرِثُ وَإِنْ تَزَوَّجَتْ بِعَشْرَةِ أَزْوَاجٍ.
وَلِابْنِ أَبِي لَيْلَى فِي قولهِ تَرِثُ مَا لَمْ تَتَزَوَّجْ وَهُوَ قول أَحْمَدَ، وَيُعْرَفُ مِنْ تَقْيِيدِ الْإِرْثِ بِالْعِدَّةِ أَنَّهُ لَوْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ الَّتِي لَمْ يَدْخُلْ بِهَا فِي مَرَضٍ مَاتَ فِيهِ لَا تَرِثُ لِأَنَّهَا لَا عِدَّةَ عَلَيْهَا مِنْ ذَلِكَ الطَّلَاقِ، وَقَيَّدَ بِغَيْرِ الرِّضَا، لِأَنَّهُ لَوْ طَلَّقَهَا بِرِضَاهَا لَا تَرِثُ، وَلَا بُدَّ مِنْ قَيْدِ كَوْنِهِمَا مِمَّنْ يَتَوَارَثَانِ حَالَ الطَّلَاقِ لِأَنَّهُ تَعَلَّقَ حَقُّهَا بِمَالِهِ إذَا مَرِضَ هُوَ إذْ ذَاكَ، حَتَّى لَوْ كَانَتْ كِتَابِيَّةً أَوْ أَحَدُهُمَا مَمْلُوكًا وَقْتَ الطَّلَاقِ لَا تَرِثُ، وَإِنْ أَسْلَمَتْ فِي الْعِدَّةِ قَبْلَ مَوْتِهِ أَوْ عِتْقٍ لَا تَرِثُ.
أَمَّا لَوْ قَالَ فِي مَرَضِهِ إذَا أَسْلَمْت فَأَنْتِ طَالِقٌ بَائِنًا تَرِثُهُ لِأَنَّهُ عَلَّقَ بِزَمَانِ تَعَلُّقِ حَقِّهَا بِمَالِهِ.
وَاخْتَلَفُوا فِيمَا إذَا دَامَ بِهِ الْمَرَضُ أَكْثَرَ مِنْ سَنَتَيْنِ ثُمَّ مَاتَ ثُمَّ جَاءَتْ بِوَلَدٍ بَعْدَ مَوْتِهِ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ، فَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ تَرِثُ، وَعِنْدَهُمَا لَا تَرِثُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمُبَانَةَ إذَا جَاءَتْ بِوَلَدٍ لِأَكْثَرِ مِنْ سَنَتَيْنِ تَنْقَضِي بِهِ الْعِدَّةُ عِنْدَهُ حَمْلًا عَلَى أَنَّهُ حَادِثٌ فِي الْعِدَّةِ مِنْ زِنًا فَلَا يَثْبُتُ نَسَبُهُ مِنْهُ، وَيَتَيَقَّنُ بِوَضْعِهِ بَرَاءَةُ الرَّحِمِ فَتَنْقَضِي بِهِ الْعِدَّةُ بَعْدَ مَوْتِهِ فَتَرِثُ.
وَعِنْدَهُمَا لَا يُحْمَلُ عَلَى الزِّنَا وَإِنْ قَالَتْهُ، بَلْ عَلَى أَنَّهُ مِنْ زَوْجٍ آخَرَ بَعْدَ عِدَّةِ الْأَوَّلِ فَتَبَيَّنَ أَنَّ عِدَّتَهَا انْقَضَتْ قَبْلَ مَوْتِهِ فَلَا تَرِثُ، وَسَتَأْتِي الْمَسْأَلَةُ فِي ثُبُوتِ النَّسَبِ.
قولهُ: (وَهِيَ السَّبَبُ) أَيْ الزَّوْجِيَّةُ هِيَ السَّبَبُ فِي الْإِرْثِ وَقَدْ انْقَطَعَتْ بِالْبَيْنُونَةِ، وَكَذَا لَا يَرِثُهَا إذَا مَاتَتْ فِي الْعِدَّةِ، فَلَوْ كَانَتْ الزَّوْجِيَّةُ بَاقِيَةً لَاقْتَضَتْ التَّوَارُثَ مِنْ الْجَانِبَيْنِ، وَبِمَذْهَبِنَا قَالَ عُمَرُ وَابْنُهُ وَعُثْمَانُ وَابْنُ مَسْعُودٍ وَالْمُغِيرَةُ، وَنَقَلَهُ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيّ عَنْ عَلِيٍّ وَأُبَيُّ بْنِ كَعْبٍ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ وَعَائِشَةَ وَزَيْدِ ابْنِ ثَابِتٍ، وَلَمْ يُعْلَمْ عَنْ صَحَابِيٍّ خِلَافُهُ، وَهُوَ مَذْهَبُ النَّخَعِيِّ وَالشَّعْبِيِّ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَابْنِ سِيرِينَ وَعُرْوَةَ وَشُرَيْحٍ وَرَبِيعَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَطَاوُسٍ وَابْنِ شُبْرُمَةَ وَالثَّوْرِيِّ وَحَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ وَالْحَرْثِ الْعُكْلِيِّ.
لَنَا الْإِجْمَاعُ وَالْقِيَاسُ.
أَمَّا الْإِجْمَاعُ فَلِأَنَّ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَرَّثَ تَمَاضُرَ بِنْتَ الْأَصْبَغِ بْنِ زِيَادٍ الْكَلْبِيَّةَ، وَقِيلَ بِنْتُ عَمْرِو بْنِ الشَّرِيدِ السُّلَمِيَّةُ مِنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ لَمَّا بَتَّ طَلَاقَهَا فِي مَرَضِهِ وَمَاتَ وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ بِمَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ فَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ أَحَدٌ فَكَانَ إجْمَاعًا، وَقَالَ: مَا اتَّهَمْته وَلَكِنْ أَرَدْت السُّنَّةَ.
وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ أَلْيَقُ مِمَّا رُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ أَنَّهُ قَالَ حِينَ وَرَّثَهَا فَرَّ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ.
وَقَدْ ذَكَرَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّهُ قَالَ: مَا فَرَرْت مِنْ كِتَابِ اللَّهِ.
وَقول ابْنِ الزُّبَيْرِ فِي خِلَافَتِهِ: لَوْ كُنْت أَنَا لَمْ أُوَرِّثْهَا، أَرَادَ بِهِ لِعَدَمِ عِلْمِي إذْ ذَاكَ بِأَنَّ الْحُكْمَ الشَّرْعِيَّ فِي حَقِّهَا ذَلِكَ، وَهُوَ بَعْدَ انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ فِيهِ فَلَا يُقْدَحُ فِيهِ.
لَا يُقَالُ: بَلْ عَلَى هَذَا التَّقْرِيرِ لَمْ يَكُنْ إجْمَاعًا لِأَنَّهُ كَانَ سُكُوتِيًّا، وَحِينَ قَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ ذَلِكَ ظَهَرَ أَنَّ سُكُوتَهُ لَمْ يَكُنْ وِفَاقًا.
لِأَنَّا نَقول: نَعَمْ لَوْ كَانَ إذْ ذَاكَ فَقِيهًا لَكِنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ مِنْ الْفُقَهَاءِ إذْ لَمْ يُعْرَفْ لَهُ قَبْلَ ذَلِكَ فَتْوَى وَلَا شُهْرَةٌ بِفِقْهٍ، وَالْحُكْمُ فِي ذَلِكَ يَتْبَعُ ظُهُورَ ذَلِكَ فَخِلَافُهُ كَخِلَافِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي مَسْأَلَةِ الْعَوْلِ.
وَقول الْمَالِكِيَّةِ: كَانَ قَضَاءُ عُثْمَانَ بَعْدَ الْعِدَّةِ مُعَارَضٌ بِقول الْجُمْهُورِ أَنَّهُ كَانَ فِيهَا.
وَأَمَّا الْقِيَاسُ فَعَلَى مَا لَوْ وَهَبَ كُلَّ مَالِهِ أَوْ تَبَرَّعَ لِبَعْضِ الْوَرَثَةِ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ بِجَامِعِ إبْطَالِ حَقٍّ بَعْدَ تَعَلُّقِهِ بِمَالِهِ فِيهِ، وَهَذَا لِأَنَّ حَقَّ الْوَرَثَةِ يَتَعَلَّقُ بِمَالِهِ بِالْمَرَضِ لِأَنَّهُ سَبَبُ الْمَوْتِ، وَلِذَا حُجِرَ عَنْ التَّبَرُّعَاتِ بِمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ وَالزَّوْجَةُ مِنْ الْوَرَثَةِ فَقَدْ تَمَّ الْقِيَاسُ بَعْدَ الْإِجْمَاعِ، وَهَذَا الْقِيَاسُ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى ظُهُورِ قَصْدِ الْإِبْطَالِ بَلْ هُوَ دَائِرٌ مَعَ ثُبُوتِ الْإِبْطَالِ سَوَاءً قَصَدَهُ أَوْ لَمْ يَقْصِدْهُ وَلَمْ يَخْطِرْ لَهُ.
وَأَمَّا الْقِيَاسُ الْمُتَوَقِّفُ عَلَيْهِ كَمَا فَعَلَ الْمُصَنِّفُ فَهُوَ قِيَاسُهُ عَلَى قَاتِلِ الْمُوَرِّثِ.
وَصُورَتُهُ: هَكَذَا قَصَدَ إبْطَالَ حَقِّهَا بَعْدَ تَعَلُّقِهِ فَيَثْبُتُ نَقِيضُ مَقْصُودِهِ كَقَاتِلِ الْمُوَرِّثِ بِجَامِعِ كَوْنِهِ فَعَلَهُ مُحَرَّمًا لِغَرَضٍ فَاسِدٍ فَالْحُكْمُ ثُبُوتُ نَقِيضِ مَقْصُودِهِ، وَلِذَا اخْتَلَفَ خُصُوصُ الثَّابِتِ فِي الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ، فَإِنَّهُ فِي الْأَصْلِ مَنْعُ الْمِيرَاثِ وَفِي الْفَرْعِ ثُبُوتُ الْمِيرَاثِ.
وَهَذَا التَّعْلِيلُ فِي طَرِيقِ الْآمِدِيِّ بِمُنَاسِبِ غَرِيبٌ إذْ لَمْ يَشْهَدْ لَهُ أَصْلُ بِالِاعْتِبَارِ، بَلْ الثَّابِتُ مُجَرَّدُ ثُبُوتِ الْحُكْمِ مَعَهُ فِي الْمَحِلِّ: أَعْنِي الْقَاتِلَ، وَأَمَّا عِنْدَنَا فَقَدْ ثَبَتَ اعْتِبَارُهُ بِالْإِجْمَاعِ الْمَذْكُورِ، وَكَانَ مُقْتَضَى الْقِيَاسِ أَنْ تَرِثَ وَلَوْ مَاتَ بَعْدَ تَزَوُّجِهَا كَقول مَالِكٍ، إلَّا أَنَّ أَصْحَابَنَا رَأَوْا أَنَّ اشْتِرَاطَ عَمَلِ هَذِهِ الْعِلَّةِ الْإِمْكَانُ وَهُوَ بِبَقَاءِ الْعِدَّةِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ حُكْمَ الشَّرْعِ بِالْمِيرَاثِ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ لِنَسَبٍ أَوْ سَبَبٍ وَهُوَ الزَّوْجِيَّةُ وَالْعِتْقُ، فَحَيْثُ اقْتَضَى الدَّلِيلُ تَوْرِيثَ الشَّرْعِ إيَّاهَا لَزِمَ أَنَّهُ اُعْتُبِرَ بَقَاءُ النِّكَاحِ حَالَ الْمَوْتِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ بَقَاءَهُ إمَّا بِالْحُكْمِ بِقِيَامِهِ حَقِيقَةً أَوْ بِقِيَامِ آثَارِهِ مِنْ مَنْعِ الْخُرُوجِ وَالتَّزَوُّجِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَقِيَامُ هَذِهِ الْآثَارِ لَيْسَ إلَّا بِقِيَامِ الْعِدَّةِ فَيَلْزَمُ ثُبُوتُ تَوْرِيثِهَا بِمَوْتِهِ فِي عَدَمِهَا، وَالْمُصَنِّفُ لَمْ يُعَيِّنْ لِقِيَاسِهِ أَصْلًا فِي الْإِلْحَاقِ، بَلْ قَالَ: قَصَدَ إبْطَالَ حَقِّهَا فَيُرَدُّ عَلَيْهِ قَصْدُهُ دَفْعًا لِلضَّرَرِ، وَمِثْلُهُ لَا يُفْعَلُ إلَّا إذَا كَانَ هُنَاكَ أَمْوَالٌ شَتَّى يُمْكِنُ الْإِلْحَاقُ بِكُلٍّ مِنْهَا، وَلَيْسَ يُعْرَفُ لِرَدِّ الْقَصْدِ أَصْلٌ سِوَى قَاتِلِ الْمُوَرِّثِ.
وَيُمْكِنُ أَنَّهُ اعْتَبَرَ أُصُولَهُ كُلَّ مَنْ أَلْزَمْ ضَرَرًا بِطَرِيقٍ غَيْرِ مُبَاحٍ فَإِنَّهُ يُرَدُّ ذَلِكَ عَلَيْهِ، إلَّا أَنَّ قولهُ الزَّوْجِيَّةُ سَبَبُ إرْثِهَا فِي مَرَضِ مَوْتِهِ غَيْرُ جَيِّدٍ لِأَنَّهَا سَبَبُ إرْثِهَا عِنْدَ مَوْتِهِ عَنْ مَرَضٍ أَوْ فَجْأَةٍ.
وَالْوَجْهُ أَنْ يَقول: الزَّوْجِيَّةُ سَبَبُ تَعَلُّقِ حَقِّهَا بِمَالِهِ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ وَالزَّوْجُ قَصَدَ إلَخْ.
قولهُ: (بِخِلَافِ مَا بَعْدَ الِانْقِضَاءِ) أَيْ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ لِأَنَّهُ لَا إمْكَانَ لِلتَّوْرِيثِ إذَا لَمْ يُعْهَدُ بَقَاءُ شَيْءٍ مِنْ آثَارِ النِّكَاحِ بَعْدَهَا.
عَلَى أَنَّهُ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَعَائِشَةَ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عُمَرَ وَأَبِيِّ بْنِ كَعْبٍ أَنَّ امْرَأَةَ الْفَارِّ تَرِثُ مَا دَامَتْ فِي الْعِدَّةِ، وَبِهِ يُحْمَلُ قول أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ تَرِثُ مَا لَمْ تَتَزَوَّجْ: أَيْ مَا لَمْ تَقْدِرْ عَلَى قُدْرَةِ التَّزَوُّجِ وَهُوَ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ: أَيْ مَا لَمْ تَقْدِرْ عَلَيْهِ.
قولهُ: (وَالزَّوْجِيَّةُ إلَخْ) جَوَابٌ عَنْ قولهِ وَلِهَذَا لَا يَرِثُهَا: أَيْ الزَّوْجِيَّةُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ: أَيْ حَالَةَ مَرَضِهِ لَيْسَتْ سَبَبًا لِإِرْثِهِ عَنْهَا بَلْ فِي حَالِ مَرَضِهَا.
وَنَقول: لَوْ كَانَتْ هِيَ الْمَرِيضَةَ فَأَبَانَتْ نَفْسَهَا بِأَنْ ارْتَدَّتْ حِينَئِذٍ يَثْبُتُ حُكْمُ الْفِرَارِ فِي حَقِّهَا فَيَرِثُهَا الزَّوْجُ، بِخِلَافِ مَا لَوْ ارْتَدَّتْ صَحِيحَةً لِأَنَّهَا بَانَتْ بِنَفْسِ الرِّدَّةِ قَبْلَ أَنْ تَصِيرَ مُشْرِفَةً عَلَى الْهَلَاكِ وَلَا هِيَ بِالرِّدَّةِ مُشْرِفَةٌ عَلَيْهِ لِأَنَّهَا لَا تُقْتَلُ.
قولهُ: (فَتَبْطُلُ فِي حَقِّهِ) بِرَفْعِ اللَّامِ فَتَبْطُلُ الزَّوْجِيَّةُ بِالطَّلَاقِ الْبَائِنِ فِي حَقِّ الرَّجُلِ حَقِيقَةً وَحُكْمًا فَلَا يَرِثُهَا إذَا مَاتَتْ، بِخِلَافِ مَا إذَا أَبَانَهَا فِي مَرَضِ مَوْتِهِ ثُمَّ مَاتَ حَيْثُ تَرِثُهُ لِأَنَّ الزَّوْجِيَّةَ وَإِنْ بَطَلَتْ بِالْبَائِنِ حَقِيقَةً لَكِنَّهَا جُعِلَتْ بَاقِيَةً فِي حَقِّهَا دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْهَا لِأَنَّهُ قَصَدَ إبْطَالَ حَقِّهَا، وَضَبْطُهُ بِنَصَبِ اللَّامِ عَلَى أَنَّهُ جَوَابُ النَّفْيِ سَهْوٌ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَنْعَكِسُ الْغَرَضُ، إذْ يَكُونُ مَعْنَاهُ لَوْ كَانَتْ الزَّوْجِيَّةُ سَبَبًا لِإِرْثِهِ مِنْهَا لَبَطَلَتْ، وَلَكِنَّهَا لَيْسَتْ بِسَبَبٍ فَلَا تَبْطُلُ، وَإِذَا لَمْ تَبْطُلْ فَيَجِبُ أَنْ يَرِثَهَا وَلَا يَقول بِهِ أَحَدٌ.

متن الهداية:
(وَإِنْ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا بِأَمْرِهَا أَوْ قَالَ لَهَا اخْتَارِي فَاخْتَارَتْ نَفْسَهَا أَوْ اخْتَلَعَتْ مِنْهُ ثُمَّ مَاتَ وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ لَمْ تَرِثْهُ) لِأَنَّهَا رَضِيَتْ بِإِبْطَالِ حَقِّهَا وَالتَّأْخِيرِ لِحَقِّهَا.
وَإِنْ قَالَتْ طَلِّقْنِي لِلرَّجْعَةِ فَطَلَّقَهَا ثَلَاثًا وَرِثَتْهُ لِأَنَّ الطَّلَاقَ الرَّجْعِيَّ لَا يُزِيلُ النِّكَاحَ فَلَمْ تَكُنْ بِسُؤَالِهَا رَاضِيَةً بِبُطْلَانِ حَقِّهَا.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَإِنْ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا بِأَمْرِهَا) لَيْسَ قَيْدًا، بَلْ الْمَقْصُودُ أَنْ يُطَلِّقَهَا بَائِنًا بِأَمْرِهَا، وَلِهَذَا عَطَفَ قولهُ أَوْ قَالَ لَهَا اخْتَارِي فَاخْتَارَتْ نَفْسَهَا عَلَيْهِ، فَإِنَّ هَذَا الْقَدْرَ إنَّمَا يُثْبِتُ طَلْقَةً بَائِنَةً، وَكَذَا إذَا اخْتَلَعَتْ مِنْهُ فِي مَرَضِهِ ثُمَّ مَاتَ وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ لَمْ تَرِثْهُ لِأَنَّهَا رَضِيَتْ بِإِبْطَالِ حَقِّهَا.
أَمَّا فِي الْأُولَى فَلِلْأَمْرِ مِنْهَا بِالْعِلَّةِ، وَأَمَّا فِي الْأُخْرَيَيْنِ فَلِأَنَّهُمَا بَاشَرَا الْعِلَّةَ.
أَمَّا فِي التَّخْيِيرِ فَظَاهِرٌ لِأَنَّهُ تَمْلِيكٌ مِنْهَا، وَأَمَّا فِي الْخُلْعِ فَلِأَنَّ الْتِزَامَ الْمَالِ عِلَّةُ الْعِلَّةِ، لِأَنَّهُ شِرَاءُ الطَّلَاقِ، وَمُبَاشَرَةُ آخِرِ وَصْفَيْ الْعِلَّةِ كَمُبَاشَرَتِهَا، بِخِلَافِ مُبَاشَرَةِ بَعْضِ الْعِلَّةِ.
فَمِنْ فُرُوعِ ذَلِكَ مَا لَوْ قَالَ لِامْرَأَتَيْهِ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ وَقَدْ دَخَلَ بِهِمَا طَلِّقَا أَنْفُسَكُمَا ثَلَاثًا فَطَلَّقَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ نَفْسَهَا وَصَاحِبَتَهَا عَلَى التَّعَاقُبِ طَلُقَتَا ثَلَاثًا بِتَطْلِيقِ الْأُولَى لَا الثَّانِيَةِ وَوَرِثَتْ الثَّانِيَةُ لِأَنَّهَا لَمْ تُبَاشِرْ عِلَّةَ الْفُرْقَةِ لَا الْأُولَى لِأَنَّهَا الْمُبَاشِرَةُ.
وَلَوْ بَدَأَتْ الْأُولَى بِطَلَاقِ ضَرَّتِهَا ثُمَّ بِطَلَاقِ نَفْسِهَا ثُمَّ الْأُخْرَى كَذَلِكَ وَرِثَتَا لِأَنَّ الْوَاقِعَ عَلَى كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا طَلَاقُ ضَرَّتِهَا لِإِطْلَاقِ نَفْسِهَا الْخُرُوجَ الْأَمْرِ مِنْ يَدِهَا لِاشْتِغَالِهَا بِطَلَاقِ الضَّرَّةِ، وَالتَّفْوِيضُ تَمْلِيكٌ وَهُوَ مُقْتَصِرٌ عَلَى الْمَجْلِسِ.
وَلَوْ طَلَّقَتْ كُلٌّ نَفْسَهَا وَصَاحِبَتَهَا مَعًا طَلُقَتَا وَلَمْ تَرِثَا لِأَنَّ كُلًّا طَلُقَتْ بِتَطْلِيقِ نَفْسِهَا ثُمَّ اشْتَغَلَتْ بِمَا لَا يُفِيدُ مِنْ تَطْلِيقِ ضَرَّتِهَا.
وَإِنْ طَلَّقَتَا إحْدَاهُمَا بِأَنْ طَلَّقَتْ نَفْسَهَا وَطَلَّقَتْهَا ضَرَّتُهَا وَوُجِدَ ذَلِكَ مَعًا طَلُقَتْ وَلَا تَرِثُ لِأَنَّهُ وُجِدَ فِي حَقِّهَا طَلَاقُ نَفْسِهَا وَطَلَاقُ الْوَكِيلِ فَيُضَافُ إلَى الْمَالِكِ لِأَنَّهُ أَقْوَى، أَوْ كُلٌّ يَصْلُحُ عِلَّةً وَقَدْ نَزَلَا مَعًا فَيُضَافُ إلَى كُلٍّ كَأَنْ لَيْسَ مَعَهُ غَيْرُهُ.
وَلَوْ قَالَ فِي مَرَضِهِ طَلِّقَا أَنْفُسَكُمَا إنْ شِئْتُمَا فَطَلَّقَتْ إحْدَاهُمَا نَفْسَهَا وَصَاحِبَتَهَا لَا تَطْلُقُ وَاحِدَةٌ مِنْهُمَا حَتَّى تُطَلِّقَ الْأُخْرَى نَفْسَهَا وَصَاحِبَتَهَا لِتَعَلُّقِ التَّفْوِيضِ بِمَشِيئَتِهِمَا خِلَافًا لِزُفَرَ كَأَنَّهُ قَالَ طَلِّقَا أَنْفُسَكُمَا إنْ شِئْتُمَا طَلَاقَكُمَا، بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ فَإِنَّهُ لَمْ يُعَلِّقْ التَّفْوِيضَ بِشَرْطِ الْمَشِيئَةِ فَتَنْفَرِدُ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا بِذَلِكَ، فَلَوْ طَلَّقَتْ الْأُخْرَى بَعْدَ ذَلِكَ نَفْسَهَا وَصَاحِبَتَهَا طَلُقَتَا لِوُجُودِ كَمَالِ الْعِلَّةِ وَوَرِثَتْ الْأُولَى لَا الثَّانِيَةُ لِأَنَّ الثَّانِيَةَ بَاشَرَتْ آخِرَ وَصْفَيْ الْعِلَّةِ وَالْأُولَى بَعْضُ الْعِلَّةِ.
وَلَوْ خَرَجَ الْكَلَامَانِ مِنْهُمَا مَعًا بَانَتَا وَوَرِثَتَاهُ لِأَنَّ كُلًّا بَاشَرَتْ بَعْضَ الْعِلَّةِ، هَذَا كُلُّهُ بِشَرْطِ الْمَجْلِسِ لِأَنَّهُ تَمْلِيكٌ.
وَلَوْ قَالَ فِي مَرَضِهِ أَمْرُكُمَا بِيَدَيْكُمَا فَهُوَ تَمْلِيكٌ مِنْهُمَا فَلَا تَنْفَرِدُ إحْدَاهُمَا بِالطَّلَاقِ كَمَسْأَلَةِ الْمَشِيئَةِ سَوَاءٌ إلَّا أَنَّهُمَا إذَا اجْتَمَعَتَا عَلَى طَلَاقِ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا يَقَعُ، وَفِي قولهِ إنْ شِئْتُمَا لَا يَقَعُ لِأَنَّهُ جَعَلَ الرَّأْيَ إلَيْهِمَا فِي شَيْئَيْنِ، فَإِذَا اجْتَمَعَ رَأْيُهُمَا فِي شَيْءٍ صَحَّ، كَمَا لَوْ وَكَّلَ رَجُلَيْنِ بِبَيْعِ عَبْدَيْنِ فَبَاعَا أَحَدَهُمَا وَهُنَاكَ فَوَّضَ إلَيْهِمَا بِشَرْطِ مَشِيئَتِهِمَا الطَّلَاقَيْنِ فَكَانَ عَدَمًا قَبْلَ الشَّرْطِ.
وَلَوْ قَالَ طَلِّقَا أَنْفُسَكُمَا بِأَلْفٍ فَقَالَتْ كُلٌّ طَلَّقْتُ نَفْسِي وَصَاحِبَتِي بِأَلْفٍ مَعًا أَوْ مُتَعَاقِبًا بَانَتَا بِأَلْفٍ وَيُقَسَّمُ عَلَى مَهْرَيْهِمَا لِأَنَّ الْأَلْفَ مُقَابَلٌ بِالْبُضْعَيْنِ لَا يُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ عِنْدَ الْخُرُوجِ فَيَقُومُ بِمَا تَزَوَّجَهُمَا عَلَيْهِ وَلَمْ يَرِثَا لِأَنَّ الْفُرْقَةَ لَا تَقَعُ إلَّا بِالْتِزَامِ الْمَالِ وَالْتِزَامِ كُلٍّ عِلَّةً لِأَنَّهُ شِرَاءُ الطَّلَاقِ، فَكَانَ فِعْلُ كُلِّ وَاحِدَةٍ عِلَّةً وَفِعْلُ الْأُخْرَى شَرْطًا وَالْحُكْمُ يُضَافُ إلَى الْعِلَّةِ فَلِذَا بَطَلَ الْإِرْثُ.
وَلَوْ طَلَّقَتَا إحْدَاهُمَا طَلُقَتْ بِحِصَّتِهَا مِنْ الْأَلْفِ لِأَنَّهُمَا مَأْمُورَتَانِ بِطَلَاقِهِمَا فَقَدْ أَتَتَا بِبَعْضِ مَا أُمِرَتَا بِهِ وَلَمْ تَرِثْ لِأَنَّهُ وَقَعَ بِقَبُولِهَا، وَإِنْ قَامَتَا بَطَلَ الْأَمْرُ لِأَنَّهُ طَلَاقٌ بِبَدَلٍ فَشَرْطُهُ اجْتِمَاعُ رَأْيِهِمَا، بِخِلَافِ الْمَأْمُورَتَيْنِ بِالطَّلَاقِ بِلَا بَدَلٍ لِأَنَّهُ يَنْفَرِدُ كُلٌّ مِنْهُمَا بِإِيقَاعِ الْأَمْرِ، وَإِذَا بَطَلَ الْأَمْرُ فِي حَقِّ نَفْسِهَا لِأَنَّهُ تَمْلِيكٌ بَطَلَ فِي حَقِّ الْأُخْرَى لِفَوَاتِ الشَّرْطِ وَهُوَ اجْتِمَاعُ رَأْيِهِمَا الْكُلُّ مِنْ الْكَافِي.
قولهُ: (وَالتَّأْخِيرُ) أَيْ تَأْخِيرُ عَمَلِ الطَّلَاقِ لَحِقَهَا وَهِيَ قَدْ رَضِيَتْ بِإِبْطَالِهِ، وَلِذَا لَوْ حَصَلَتْ الْفُرْقَةُ فِي مَرَضِهِ بِسَبَبِ الْجَبِّ وَالْعُنَّةِ وَخِيَارِ الْبُلُوغِ وَالْعِتْقِ لَمْ تَرِثْ لِرِضَاهَا بِالْمُبْطِلِ وَإِنْ كَانَتْ مُضْطَرَّةً، لِأَنَّ سَبَبَ الِاضْطِرَارِ لَيْسَ مِنْ جِهَةِ الزَّوْجِ فَلَمْ يَكُنْ جَانِيًا فِي الْفُرْقَةِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ طَلَّقَتْ نَفْسَهَا ثَلَاثًا فَأَجَازَ الزَّوْجُ فِي مَرَضِهِ حَيْثُ تَرِثُ لِأَنَّ الْمُبْطِلَ لِلْإِرْثِ إجَازَتُهُ، وَلَوْ وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ بِتَمْكِينِ ابْنِ الزَّوْجِ لَا تَرِثُ إلَّا أَنْ يَكُونَ أَبُوهُ أَمَرَهُ بِذَلِكَ فَقَرَّبَهَا مُكْرَهَةً لِأَنَّهُ بِذَلِكَ يَنْتَقِلُ إلَيْهِ فَيَكُونُ الْأَبُ كَالْمُبَاشِرِ.
وَلَوْ وُجِدَتْ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ مِنْهَا وَهِيَ مَرِيضَةٌ وَرِثَهَا الزَّوْجُ لِكَوْنِهَا فَارَّةً.
وَفِي الْجَامِعِ: لَوْ فَارَقَتْهُ فِي مَرَضِهَا بِخِيَارِ الْعِتْقِ أَوْ الْبُلُوغِ وَرِثَهَا لِأَنَّهَا مِنْ قِبَلِهَا وَإِذَا لَمْ تَكُنْ طَلَاقًا.
وَفِي الْيَنَابِيعِ جَعَلَ هَذَا قول أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ.
وَفِي الْفُرْقَةِ بِسَبَبِ الْجَبِّ وَالْعُنَّةُ وَاللِّعَانِ لَا يَرِثُهَا لِأَنَّهَا طَلَاقٌ فَكَانَتْ مُضَافَةً إلَيْهِ.
وَأَوْرَدَ: يَنْبَغِي أَنْ لَا يَرِثَهَا أَصْلًا لِأَنَّا جَعَلْنَا قِيَامَ الْعِدَّةِ كَقِيَامِ النِّكَاحِ فِي حَقِّهَا وَلَا عِدَّةَ هُنَا عِنْدَ مَوْتِهَا فَلَمْ يَبْقَ النِّكَاحُ كَبُعْدِ الْعِدَّةِ.
أُجِيبُ لَمَّا صَارَتْ مَحْجُورَةً عَنْ إبْطَالِ حَقِّهِ أَبْقَيْنَا النِّكَاحَ فِي حَقِّ الْإِرْثِ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْهُ أَوْرَدَا لِقَصْدِهَا إبْطَالَ حَقِّهِ كَمُسْتَعْجِلِ الْإِرْثِ.
وَلَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا الِاعْتِبَارَ الَّذِي هُوَ مَبْنَى هَذَا الْجَوَابِ يَسْتَلْزِمُ تَوْرِيثَ امْرَأَةِ الْفَارِّ إذَا مَاتَ بَعْدَ الْعِدَّةِ كَمَا هُوَ قول مَالِكٍ.
وَفِي الْقُنْيَةِ: أَكْرَهُ عَلَى طَلَاقِهَا الثَّلَاثَ لَا تَرِثُ لِعَدَمِ قَصْدِ الْفِرَارِ، وَلَوْ أُكْرِهَتْ عَلَى سُؤَالِهَا الطَّلَاقَ تَرِثُ.

متن الهداية:
(وَإِنْ قَالَ لَهَا فِي مَرَضِ مَوْتِهِ كُنْت طَلَّقْتُك ثَلَاثًا فِي صِحَّتِي وَانْقَضَتْ عِدَّتُك فَصَدَّقَتْهُ، ثُمَّ أَقَرَّ لَهَا بِدَيْنٍ أَوْ أَوْصَى لَهَا بِوَصِيَّةٍ فَلَهَا الْأَقَلُّ مِنْ ذَلِكَ وَمِنْ الْمِيرَاثِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ: يَجُوزُ إقْرَارُهُ وَوَصِيَّتُهُ. وَإِنْ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا فِي مَرَضِهِ بِأَمْرِهَا ثُمَّ أَقَرَّ لَهَا بِدَيْنٍ أَوْ أَوْصَى لَهَا بِوَصِيَّةٍ فَلَهَا الْأَقَلُّ مِنْ ذَلِكَ وَمِنْ الْمِيرَاثِ فِي قولهِمْ جَمِيعًا) إلَّا عَلَى قول زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ فَإِنَّ لَهَا جَمِيعَ مَا أَوْصَى وَمَا أَقَرَّ بِهِ، لِأَنَّ الْمِيرَاثَ لَمَّا بَطَلَ بِسُؤَالِهَا زَالَ الْمَانِعُ مِنْ صِحَّةِ الْإِقْرَارِ وَالْوَصِيَّةِ.
وَجْهُ قولهِمَا فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى أَنَّهُمَا لَمَّا تَصَادَقَا عَلَى الطَّلَاقِ وَانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ صَارَتْ أَجْنَبِيَّةً عَنْهُ حَتَّى جَازَ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ أُخْتَهَا فَانْعَدَمَتْ التُّهْمَةُ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ لَهَا وَيَجُوزُ وَضْعُ الزَّكَاةِ فِيهَا، بِخِلَافِ الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ لِأَنَّ الْعِدَّةَ بَاقِيَةٌ وَهِيَ سَبَبُ التُّهْمَةِ، وَالْحُكْمُ يُدَارُ عَلَى دَلِيلِ التُّهْمَةِ وَلِهَذَا يُدَارُ عَلَى النِّكَاحِ وَالْقَرَابَةِ، وَلَا عِدَّةَ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ أَنَّ التُّهْمَةَ قَائِمَةٌ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ قَدْ تَخْتَارُ الطَّلَاقَ لِيَنْفَتِحَ بَابُ الْإِقْرَارِ وَالْوَصِيَّةِ عَلَيْهَا فَيَزِيدَ حَقُّهَا، وَالزَّوْجَانِ قَدْ يَتَوَاضَعَانِ عَلَى الْإِقْرَارِ بِالْفُرْقَةِ وَانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ لِيَبَرَّهَا الزَّوْجُ بِمَالِهِ زِيَادَةً عَلَى مِيرَاثِهَا وَهَذِهِ التُّهْمَةُ فِي الزِّيَادَةِ فَرَدَدْنَاهَا، وَلَا تُهْمَةَ فِي قَدْرِ الْمِيرَاثِ فَصَحَّحْنَاهُ، وَلَا مُوَاضَعَةَ عَادَةً فِي حَقِّ الزَّكَاةِ وَالتَّزَوُّجِ وَالشَّهَادَةِ، فَلَا تُهْمَةَ فِي حَقِّ هَذِهِ الْأَحْكَامِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَلَوْ قَالَ لَهَا كُنْت طَلَّقَتْك، إلَى قولهِ: فَلَا تُهْمَةَ فِي حَقِّ هَذِهِ الْأَحْكَامِ) هَاتَانِ مَسْأَلَتَانِ: مَا إذَا تَصَادَقَا فِي مَرَضِ مَوْتِهِ عَلَى طَلَاقِهَا وَانْقِضَاءِ عِدَّتِهَا قَبْلَ الْمَرَضِ، وَمَا إذَا أَنْشَأَ طَلَاقَهَا ثَلَاثًا فِي مَرَضِ مَوْتِهِ بِسُؤَالِهَا ثُمَّ أَقَرَّ لَهَا بِمَالٍ أَوْ أَوْصَى لَهَا بِوَصِيَّةٍ، فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَهَا الْأَقَلُّ مِنْ الْمِيرَاثِ وَمِنْ كُلٍّ مِنْ الْوَصِيَّةِ وَالْمُقِرِّ بِهِ فِي الْفَصْلَيْنِ.
وَقَالَ زُفَرُ: لَهَا تَمَامُ الْمُوصَى بِهِ وَالْمُقِرِّ بِهِ فِي الْفَصْلَيْنِ، وَقَالَا فِي الْأَوَّلِ كَقول زُفَرَ، وَفِي الثَّانِي كَقول أَبِي حَنِيفَةَ.
لِزُفَرَ إنَّ الْمَانِعَ مِنْ صِحَّةِ الْوَصِيَّةِ وَالْإِقْرَارِ الْإِرْثُ وَقَدْ بَطَلَ بِتَصَادُقِهِمَا عَلَى انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ قَبْلَ الْمَوْتِ فِي الْأُولَى وَسُؤَالِهَا فِي الثَّانِيَةِ فَيَجِبُ اعْتِبَارُ مُوجِبِهِمَا.
قُلْنَا: ذَلِكَ لَوْ لَمْ تَكُنْ تُهْمَةً لَكِنَّهَا ثَابِتَةٌ، غَيْرَ أَنَّهُمَا قَالَا: إنَّمَا هِيَ ثَابِتَةٌ فِي الثَّانِيَةِ لَا الْأُولَى، وَذَلِكَ لِأَنَّ ثُبُوتَ التُّهْمَةِ بِهِ بَاطِنٌ فَأُدِيرَ عَلَى مَظِنَّتِهَا وَذَلِكَ قِيَامُ الْعِدَّةِ وَهُوَ فِي الثَّانِيَةِ لَا الْأُولَى فَوَجَبَ تَفْصِيلُنَا بَيْنَ الْفَصْلَيْنِ.
وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ مَدَارَ التُّهْمَةِ قِيَامُ الْعِدَّةِ فِي نَظَرِ الشَّرْعِ أَنَّ مَا يَنْتَفِي بِالتُّهْمَةِ مِنْ جَوَازِ الشَّهَادَةِ ثَابِتٌ فِي الْأُولَى حَتَّى جَازَتْ شَهَادَةُ أَحَدِهِمَا لِلْآخَرِ فَعُلِمَ انْتِفَاءُ التُّهْمَةِ شَرْعًا وَأَنَّهَا صَارَتْ أَجْنَبِيَّةً، وَعَنْ هَذَا جَازَ وَضْعُ الزَّكَاةِ فِيهَا وَأَنْ تَتَزَوَّجَ بِآخَرَ مِنْ وَقْتِ التَّصَادُقِ.
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ إنَّ قَصْرَ سَبَبِ التُّهْمَةِ عَلَى الْعِدَّةِ مَمْنُوعٌ بَلْ هِيَ ثَابِتَةٌ أَيْضًا نَظَرًا إلَى تَقَدُّمِ النِّكَاحِ الْمُفِيدِ لِلْأُلْفَةِ وَالشَّفَقَةِ وَإِرَادَةِ إيصَالِ الْخَيْرِ، وَلَمَّا لَمْ يَظْهَرَا مَا تَصَادَقَا عَلَيْهِ إلَّا فِي مَرَضِهِ كَانَا مُتَّهَمَيْنِ بِالْمُوَاضَعَةِ لِيَنْفَتِحَ بَابُ الْإِقْرَارِ وَالْوَصِيَّةِ، وَهَذِهِ التُّهْمَةُ إنَّمَا تَتَحَقَّقُ فِي حَقِّ الْوَرَثَةِ لَا فِي حَقِّ هَذِهِ الْأَحْكَامِ إذْ لَمْ تَجْرِ الْعَادَةُ بِالتَّوَاضُعِ لِلتَّزَوُّجِ بِأُخْتِهَا أَوْ هِيَ بِغَيْرِهِ أَوْ لِدَفْعِ الزَّكَاةِ أَوْ لِلشَّهَادَةِ فَلِذَا صَدَقَا فِيهَا لَا فِي حَقِّ الْوَرَثَةِ، وَهَذِهِ التُّهْمَةُ إنَّمَا هِيَ فِي الزَّائِدِ فَيَنْتَفِي، ثُمَّ مَا تَأْخُذُهُ إنَّمَا يَلْزَمُ فِي حَقِّهِمْ بِطَرِيقِ الْمِيرَاثِ لَا الدَّيْنِ.
وَفَائِدَتُهُ أَنَّهُ لَوْ تَوَى شَيْءٌ مِنْ التَّرِكَةِ قَبْلَ الْقِسْمَةِ فَالتَّوَى عَلَى الْكُلِّ، وَلَوْ كَانَ مَا تَأْخُذُهُ بِطَرِيقِ الدَّيْنِ لَكَانَ عَلَى الْوَرَثَةِ مَا دَامَ شَيْءٌ مِنْ التَّرِكَةِ، وَلَوْ طَلَبَتْ أَنْ تَأْخُذَ دَنَانِيرَ وَالتَّرِكَةُ عُرُوضٌ لَيْسَ لَهَا ذَلِكَ، وَلَوْ كَانَ دَيْنًا لَكَانَ لَهَا ذَلِكَ، وَلَوْ أَرَادَتْ أَنْ تَأْخُذَ مِنْ عَيْنِ التَّرِكَةِ لَيْسَ عَلَى الْوَرَثَةِ ذَلِكَ بَلْ لَهُمْ أَنْ يُعْطُوهَا مِنْ مَالٍ آخَرَ وَتُعَامَلُ فِيهِ بِزَعْمِهَا أَنْ مَا تَأْخُذُهُ دَيْنٌ، وَلَوْ أَقَرَّ بِفَسَادِ نِكَاحِهَا أَوْ خُلْعِهَا أَجْنَبِيٌّ فِي مَرَضِهِ تَرِثُ.
وَفِي جَوَامِعِ الْفِقْهِ: وَكَذَا لَوْ قَالَ كُنْت جَامَعْت أُمَّك أَوْ تَزَوَّجْتُك بِغَيْرِ شُهُودٍ، وَقولهُ وَلِهَذَا يُدَارُ عَلَى النِّكَاحِ فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ لِلْآخَرِ.
وَالْقَرَابَةُ: أَيْ قَرَابَةُ الْوِلَادِ فَلَا تُقْبَلُ مِنْ الْوَلَدِ وَإِنْ سَفَلَ لِأَبِيهِ وَجَدِّهِ وَلَا الْأَبِ وَالْجَدِّ لِابْنِهِ وَابْنِ ابْنِهِ.
وَفِي الْغَايَةِ: يَنْبَغِي أَنْ يُنْظَرَ إنْ كَانَ جَرَى بَيْنَهُمَا خُصُومَةٌ وَتَرَكَتْ خِدْمَتُهُ فِي مَرَضِهِ فَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الْمُوَاضَعَةِ وَالْإِحْسَانِ إلَيْهَا فَحِينَئِذٍ لَا تُهْمَةَ فِي الْإِقْرَارِ لَهَا وَالْوَصِيَّةِ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ فِي حَالِ الْمُطَايَبَةِ وَمُبَالَغَتِهَا فِي خَدَمَتْهُ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَصِحَّ إقْرَارُهُ وَوَصِيَّتُهُ لِلتُّهْمَةِ، وَقَاسَهُ عَلَى مَا فِي الذَّخِيرَةِ فِيمَا إذَا قَالَتْ لَك امْرَأَةٌ غَيْرِي أَوْ تَزَوَّجْت عَلِيَّ فَقَالَ كُلُّ امْرَأَةٍ لِي طَالِقٌ فَإِنَّهُ قَالَ: قِيلَ الْأَوْلَى يُحَكَّمُ الْحَالُ إنْ كَانَ قَدْ جَرَى بَيْنَهُمَا مُشَاجَرَةٌ وَخُصُومَةٌ تَدُلُّ عَلَى غَضَبِهِ يَقَعُ الطَّلَاقُ عَلَيْهَا أَيْضًا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ لَا يَقَعُ.
قَالَ السُّرُوجِيُّ: فَمُقْتَضَى مَا ذُكِرَ مِنْ تَحْكِيمِ الْحَالِ هُنَاكَ أَنْ تُحَكَّمَ هُنَا.اهـ.
وَقَدْ يُفَرَّقُ بِأَنَّ حَقِيقَةَ الْخُصُومَةِ ظَاهِرَةٌ فِي قولهَا تَزَوَّجْت عَلِيَّ وَنَحْوِهِ إذَا اقْتَرَنَ بِالْمُشَاجَرَةِ، أَمَّا هُنَا فَلَا، إذْ الْإِيصَاءُ بِمَا هُوَ أَكْثَرُ مِنْ الْمِيرَاثِ ظَاهِرٌ فِي أَنَّ تِلْكَ الْخُصُومَةَ وَالْبَغْضَاءَ لَيْسَتْ عَلَى حَقِيقَتِهَا، وَإِلَّا لَمْ يُوصِ لَهَا ظَاهِرًا.
وَالْحَاصِلُ أَنَّ الظَّاهِرَ بِذَلِكَ الْإِيصَاءِ التَّوَاضُعُ عَلَى إظْهَارِ الْخُصُومَةِ وَالتَّشَاجُرِ وَكَثِيرًا مَا يَفْعَلُ أَهْلُ الْحِيَلِ ذَلِكَ لِلْأَغْرَاضِ.

متن الهداية:
قَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: (وَمَنْ كَانَ مَحْصُورًا أَوْ فِي صَفِّ الْقِتَالِ فَطَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا لَمْ تَرِثْهُ، وَإِنْ كَانَ قَدْ بَارَزَ رَجُلًا أَوْ قُدِّمَ لِيُقْتَلَ فِي قِصَاصٍ أَوْ رَجْمٍ وَرِثَتْ إنْ مَاتَ فِي ذَلِكَ الْوَجْهِ أَوْ قُتِلَ) وَأَصْلُهُ مَا بَيَّنَّا أَنَّ امْرَأَة الْفَارِّ تَرِثُ اسْتِحْسَانًا، وَإِنَّمَا يَثْبُتُ حُكْمُ الْفِرَارِ بِتَعَلُّقِ حَقِّهَا بِمَالِهِ، وَإِنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِمَرَضٍ يُخَافُ مِنْهُ الْهَلَاكُ غَالِبًا كَمَا إذَا كَانَ صَاحِبَ الْفِرَاشِ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ بِحَالٍ لَا يَقُومُ بِحَوَائِجِهِ كَمَا يَعْتَادُهُ الْأَصِحَّاءُ، وَقَدْ يَثْبُتُ حُكْمُ الْفِرَارِ بِمَا هُوَ فِي مَعْنَى الْمَرَضِ فِي تَوَجُّهِ الْهَلَاكِ الْغَالِبِ، وَمَا يَكُونُ الْغَالِبُ مِنْهُ السَّلَامَةَ لَا يَثْبُتُ بِهِ حُكْمُ الْفِرَارِ، فَالْمَحْصُورُ وَاَلَّذِي فِي صَفِّ الْقِتَالِ الْغَالِبُ مِنْهُ السَّلَامَةُ لِأَنَّ الْحِصْنَ لِدَفْعِ بَأْسِ الْعَدُوِّ وَكَذَا الْمَنَعَةُ فَلَا يَثْبُتُ بِهِ حُكْمُ الْفِرَارِ، وَاَلَّذِي بَارَزَ أَوْ قُدِّمَ لَيُقْتَلَ الْغَالِبُ مِنْهُ الْهَلَاكُ فَيَتَحَقَّقُ بِهِ الْفِرَارُ وَلِهَذَا أَخَوَاتٌ تَخْرُجُ عَلَى هَذَا الْحَرْفِ، وَقولهُ إذَا مَاتَ فِي ذَلِكَ الْوَجْهِ أَوْ قُتِلَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ مَا إذَا مَاتَ بِذَلِكَ السَّبَبِ أَوْ بِسَبَبٍ آخَرَ كَصَاحِبِ الْفِرَاشِ بِسَبَبِ الْمَرَضِ إذَا قُتِلَ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَمَنْ كَانَ مَحْصُورًا إلَخْ) الْحَاصِلُ أَنَّ مَبْنَى الْفِرَارِ عَلَى الطَّلَاقِ حَالَ تَوَجُّهِ الْهَلَاكِ الْغَالِبِ عِنْدَهُ، وَغَلَبَةُ الْهَلَاكِ تَكُونُ حَالَ عَدَمِ الْمَرَضِ كَمَا تَكُونُ بِهِ وَتَوَجُّهُهُ بِغَيْرِهِ يَكُونُ بِالْمُبَارَزَةِ وَالتَّقْدُمَةِ لِلرَّجْمِ وَالْقَتْلِ قِصَاصًا، أَوْ فِي سَفِينَةٍ فَتَلَاطَمَتْ الْأَمْوَاجُ وَخِيفَ الْغَرَقُ أَوْ انْكَسَرَتْ وَبَقِيَ عَلَى لَوْحٍ أَوْ افْتَرَسَهُ سَبُعٌ فَبَقِيَ فِي فَمِهِ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ مَحْصُورًا فِي حِصْنٍ أَوْ فِي صَفِّ الْقِتَالِ أَوْ مَحْبُوسًا لِلْقَتْلِ أَوْ نَازِلًا فِي مَسْبَعَةٍ أَوْ فِي مَخْيَفٍ مِنْ الْعَدُوِّ أَوْ رَاكِبٍ سَفِينَةً دُونَ مَا قُلْنَا، وَالْمَرْأَةُ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ كَالرَّجُلِ، فَلَوْ بَاشَرَتْ سَبَبَ الْفُرْقَةِ فِيمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ أَحْوَالِ الْفِرَارِ كَخِيَارِ الْبُلُوغِ وَالْعِتْقِ وَتَمْكِينِ ابْنِ الزَّوْجِ وَالِارْتِدَادِ فَإِنَّهُ يَرِثُهَا عَلَى مَا بَيِّنَاهُ آنِفًا.
وَالْحَامِلُ لَا تَكُونُ فَارَّةً إلَّا فِي حَالِ الطَّلْقِ.
وَقَالَ مَالِكٌ: إذْ تَمَّ لَهَا سِتَّةُ أَشْهُرٍ ثَبَتَ حُكْمُ فِرَارِهَا لِتَوَقُّعِ الْوِلَادَةِ فِي كُلِّ سَاعَةٍ.
قُلْنَا: الْمَنَاطُ مَا يُخَافُ مِنْهُ الْهَلَاكُ وَلَا يُخَافُ مِنْهُ إلَّا فِي الطَّلْقِ، وَتَوَجُّهُهُ بِالْمَرَضِ قِيلَ: أَنْ لَا يَقْدِرَ أَنْ يَقُومَ إلَّا بِأَنْ يُقَامَ، وَقِيلَ إذَا خَطَا ثَلَاثَ خُطُوَاتٍ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُهَادَى فَصَحِيحٌ وَإِلَّا فَمَرِيضٌ.
وَضُعِّفَ بِأَنَّ الْمَرِيضَ جِدًّا لَا يَعْجُزُ أَنْ يَتَكَلَّفَ لِهَذَا الْقَدْرِ، وَقِيلَ أَنْ لَا يَقْدِرَ أَنْ يَمْشِيَ إلَّا أَنْ يُهَادَى، وَقِيلَ أَنْ لَا يَقُومَ بِحَوَائِجِهِ فِي الْبَيْتِ كَمَا تَعْتَادُهُ الْأَصِحَّاءُ وَإِنْ كَانَ يَتَكَلَّفُ، وَاَلَّذِي يَقْضِيهَا فِيهِ وَهُوَ يَشْتَكِي لَا يَكُونُ فَارًّا لِأَنَّ الْإِنْسَانَ قَلَّمَا يَخْلُو عَنْهُ، فَأَمَّا مَنْ يَذْهَبُ وَيَجِيءُ وَيَحَمُّ فَلَا وَهُوَ الصَّحِيحُ، فَأَمَّا إذَا أَمْكَنَهُ الْقِيَامُ بِهَا فِي الْبَيْتِ لَا فِي خَارِجِهِ فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ صَحِيحٌ، هَذَا فِي حَقِّ الرَّجُلِ.
أَمَّا الْمَرْأَةُ فَإِذَا لَمْ يُمْكِنْهَا الصُّعُودُ إلَى السَّطْحِ فَهِيَ مَرِيضَةٌ، وَالْمَسْلُولُ وَالْمَفْلُوجُ وَالْقَعَدُ مَا دَامَ يَزْدَادُ مَا بِهِ فَهُوَ غَالِبُ الْهَلَاكِ وَإِلَّا فَكَالصَّحِيحِ، وَبِهِ كَانَ يُفْتِي بُرْهَانُ الْأَئِمَّةِ وَالصَّدْرُ الشَّهِيدُ.
وَقِيلَ إنْ كَانَ لَا يُرْجَى بُرْؤُهُ بِالتَّدَاوِي فَكَالْمَرِيضِ وَإِلَّا فَكَالصَّحِيحِ.
وَقِيلَ مَا كَانَ يَزْدَادُ أَبَدًا، لَا إنْ كَانَ يَزْدَادُ تَارَةً وَيَقِلُّ أُخْرَى، وَلَوْ قُرِّبَ لِلْقَتْلِ فَطَلَّقَ ثُمَّ خَلَّى سَبِيلَهُ أَوْ حُبِسَ ثُمَّ قُتِلَ أَوْ مَاتَ فَهُوَ كَالْمَرِيضِ تَرِثُهُ لِأَنَّهُ ظَهَرَ فِرَارُهُ بِذَلِكَ الطَّلَاقِ ثُمَّ تَرَتَّبَ مَوْتُهُ فَلَا يُبَالِي بِكَوْنِهِ بِغَيْرِهِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ قولهُ وَمَا يَكُونُ الْغَالِبُ مِنْهُ السَّلَامَةَ لَا يَثْبُتُ بِهِ حُكْمُ الْفِرَارِ يَقْتَضِي إلْحَاقَ حَالَةِ الطَّلْقِ لِلْحَامِلِ وَالْمُبَارِزَةِ بِحَالِ الصِّحَّةِ إلَّا أَنْ يَبْرُزَ لِمَنْ عَلِمَ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَقْرَانِهِ، فَالْأَوْلَى أَنْ يُعَلِّقَ مَا هُوَ فِي حُكْمِ مَرَضِ الْمَوْتِ بِمَا يُخَافُ مِنْهُ الْمَوْتُ غَالِبًا كَمَا ذَكَرَهُ فِي الْمَرَضِ، عَلَى أَنَّهُ غَالِبًا مُتَعَلِّقٌ بِالْخَوْفِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْوَاقِعُ غَلَبَةَ الْهَلَاكِ فَتَأَمَّلْ، وَأَمَّا فِي حَالَةِ فَشْوِ الطَّاعُونِ فَهَلْ يَكُونُ لِكُلٍّ مِنْ الْأَصِحَّاءِ حُكْمُ الْمَرَضِ فَقَالَهُ الشَّافِعِيَّةُ وَلَمْ أَرَهُ لِمَشَايِخِنَا.

متن الهداية:
(وَإِذَا قَالَ الرَّجُلُ لِامْرَأَتِهِ وَهُوَ صَحِيحٌ إذَا جَاءَ رَأْسُ الشَّهْرِ أَوْ إذَا دَخَلْت الدَّارَ أَوْ إذَا صَلَّى فُلَانٌ الظُّهْرَ أَوْ إذَا دَخَلَ فُلَانٌ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ فَكَانَتْ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ وَالزَّوْجُ مَرِيضٌ لَمْ تَرِثْ، وَإِنْ كَانَ الْقول فِي الْمَرَضِ وَرِثَتْ إلَّا فِي قولهِ إذَا دَخَلْت الدَّارَ) وَهَذَا عَلَى وُجُوهٍ: إمَّا أَنْ يُعَلِّقَ الطَّلَاقَ بِمَجِيءِ الْوَقْتِ أَوْ بِفِعْلِ الْأَجْنَبِيِّ أَوْ بِفِعْلِ نَفْسِهِ أَوْ بِفِعْلِ الْمَرْأَةِ، وَكُلُّ وَجْهٍ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَمَّا إنْ كَانَ التَّعْلِيقُ فِي الصِّحَّةِ وَالشَّرْطُ فِي الْمَرَضِ أَوْ كِلَاهُمَا فِي الْمَرَضِ.
أَمَّا الْوَجْهَانِ الْأَوَّلَانِ وَهُوَ مَا إذَا كَانَ التَّعْلِيقُ بِمَجِيءِ الْوَقْتِ بِأَنْ قَالَ إذَا جَاءَ رَأْسُ الشَّهْرِ فَأَنْتِ طَالِقٌ أَوْ بِفِعْلِ الْأَجْنَبِيِّ بِأَنْ قَالَ إذَا دَخَلَ فُلَانٌ الدَّارَ أَوْ صَلَّى فُلَانٌ الظُّهْرَ، فَإِنْ كَانَ التَّعْلِيقُ وَالشَّرْطُ فِي الْمَرَضِ فَلَهَا الْمِيرَاثُ لِأَنَّ الْقَصْدَ إلَى الْفِرَارِ قَدْ تَحَقَّقَ مِنْهُ بِمُبَاشَرَةٍ التَّعْلِيقِ فِي حَالِ تَعَلُّقِ حَقِّهَا بِمَالِهِ، وَإِنْ كَانَ التَّعْلِيقُ فِي الصِّحَّةِ وَالشَّرْطُ فِي الْمَرَضِ لَمْ تَرِثْ.
وَقَالَ زُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَرِثُ لِأَنَّ الْمُعَلَّقَ بِالشَّرْطِ يَنْزِلُ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ كَالْمُنْجَزِ فَكَانَ إيقَاعًا فِي الْمَرَضِ.
وَلَنَا أَنَّ التَّعْلِيقَ السَّابِقَ يَصِيرُ تَطْلِيقًا عِنْدَ الشَّرْطِ حُكْمًا لَا قَصْدًا وَلَا ظُلْمَ إلَّا عَنْ قَصْدٍ فَلَا يُرَدُّ تَصَرُّفُهُ.
وَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّالِثُ وَهُوَ مَا إذَا عَلَّقَهُ بِفِعْلِ نَفْسِهِ فَسَوَاءٌ كَانَ التَّعْلِيقُ فِي الصِّحَّةِ وَالشَّرْطُ فِي الْمَرَضِ أَوْ كَانَا فِي الْمَرَضِ وَالْفِعْلُ مِمَّا لَهُ مِنْهُ بُدٌّ أَوْ لَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ يَصِيرُ فَارًّا لِوُجُودِ قَصْدِ الْإِبْطَالِ، إمَّا بِالتَّعْلِيقِ أَوْ بِمُبَاشَرَةِ الشَّرْطِ فِي الْمَرَضِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مِنْ فِعْلِ الشَّرْطِ بُدٌّ فَلَهُ مِنْ التَّعْلِيقِ أَلْفُ بُدٍّ فَيُرَدُّ تَصَرُّفُهُ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْهَا.
وَأَمَّا الْوَجْهُ الرَّابِعُ وَهُوَ مَا إذَا عَلَّقَهُ بِفِعْلِهَا، فَإِنْ كَانَ التَّعْلِيقُ وَالشَّرْطُ فِي الْمَرَضِ وَالْفِعْلُ مِمَّا لَهَا مِنْهُ بُدٌّ كَكَلَامِ زَيْدٍ وَنَحْوِهِ لَمْ تَرِثْ لِأَنَّهَا رَاضِيَةٌ بِذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ الْفِعْلُ مِمَّا لَا بُدَّ لَهَا مِنْهُ كَأَكْلِ الطَّعَامِ وَصَلَاةِ الظُّهْرِ وَكَلَامِ الْأَبَوَيْنِ تَرِثُ لِأَنَّهَا مُضْطَرَّةٌ فِي الْمُبَاشَرَةِ لِمَا لَهَا فِي الِامْتِنَاعِ مِنْ خَوْفِ الْهَلَاكِ فِي الدُّنْيَا أَوْ فِي الْعُقْبَى وَلَا رِضًا مَعَ الِاضْطِرَارِ.
وَأَمَّا إذَا كَانَ التَّعْلِيقُ فِي الصِّحَّةِ وَالشَّرْطُ فِي الْمَرَضِ، فَإِنْ كَانَ الْفِعْلُ مِمَّا لَهَا مِنْهُ بُدٌّ فَلَا إشْكَالَ أَنَّهُ لَا مِيرَاثَ لَهَا، وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا بُدَّ لَهَا مِنْهُ فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَهُوَ قول زُفَرَ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ مِنْ الزَّوْجِ صُنْعٌ بَعْدَمَا تَعَلَّقَ حَقُّهَا بِمَالِهِ.
وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَرِثُ لِأَنَّ الزَّوْجَ أَلْجَأَهَا إلَى الْمُبَاشَرَةِ فَيَنْتَقِل الْفِعْلُ إلَيْهِ كَأَنَّهَا آلَةٌ لَهُ كَمَا فِي الْإِكْرَاهِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (فَأَنْتِ طَالِقٌ) أَيْ طَالِقٌ بَائِنٌ لِأَنَّ الْفِرَارَ يَثْبُتُ بِهِ لَا بِالرَّجْعِيِّ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ.
قولهُ: (إمَّا أَنْ يُعَلِّقَ الطَّلَاقَ إلَخْ) ضَبْطُهُ إمَّا أَنْ يُعَلِّقَهُ بِفِعْلِ أَحَدٍ أَوْ لَا.
الثَّانِي التَّعْلِيقُ بِنَحْوِ مَجِيءِ الْغَدِ وَالْأَوَّلُ إمَّا بِفِعْلِ نَفْسِهِ أَوْ غَيْرِهِ، وَهُوَ إمَّا الْمَرْأَةُ أَوْ أَجْنَبِيٌّ، وَالْكُلُّ عَلَى وَجْهَيْنِ: إمَّا أَنْ يَكُونَ التَّعْلِيقُ وَوُقُوعُ الشَّرْطِ فِي الْمَرَضِ أَوْ الشَّرْطُ فَقَطْ.
فَفِي التَّعْلِيقِ بِفِعْلِ الْأَجْنَبِيِّ وَمَجِيءِ الْوَقْتِ إنْ كَانَا فِي الْمَرَضِ وَرِثَتْ لِظُهُورِ قَصْدِ الْفِرَارِ بِالتَّعْلِيقِ فِي حَالِ تَعَلُّقِ حَقِّهَا بِمَالِهِ، وَإِنْ كَانَ التَّعْلِيقُ فِي الصِّحَّةِ وَالشَّرْطُ فِي الْمَرَضِ لَمْ تَرِثْ.
وَقَالَ زُفَرُ تَرِثُ لِأَنَّ الْمُعَلَّقَ بِالشَّرْطِ كَالْمُنْجَزِ عِنْدَهُ فَكَانَ إيقَاعًا فِي الْمَرَضِ.
وَلَنَا أَنَّ التَّعْلِيقَ السَّابِقَ يَصِيرُ تَطْلِيقًا بِنَفْسِهِ عِنْدَ الشَّرْطِ حُكْمًا لَا قَصْدًا: يَعْنِي يَسْلَمُ قول زُفَرَ إنَّهُ يَصِيرُ كَالْمُنْجَزِ لَكِنْ حُكْمًا لَا قَصْدًا، وَلِذَا لَوْ كَانَ مَجْنُونًا عِنْدَ الشَّرْطِ وَقَعَ، وَلَوْ حَلَفَ بَعْدَ التَّعْلِيقِ لَا يُطَلِّقُ ثُمَّ وُجِدَ الشَّرْطُ لَمْ يَحْنَثْ، فَلَوْ كَانَ تَطْلِيقًا عِنْدَ الشَّرْطِ حَقِيقَةً وَحُكْمًا لَمْ يَقَعْ فِي الْأَوَّلِ وَحَنِثَ فِي الثَّانِي وَلِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فَارًّا بِالتَّعْلِيقِ فِي الصِّحَّةِ وَبَعْدَهُ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ صُنْعٌ فِي وُجُودِ الشَّرْطِ وَلَا قُدْرَةَ لَهُ عَلَى مَنْعِ فِعْلِ الْأَجْنَبِيِّ وَمَجِيءِ الْوَقْتِ فَلَا يَكُونُ ظَالِمًا.
وَأَمَّا فِي التَّعْلِيقِ بِفِعْلِ نَفْسِهِ فَتَرِثُ عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَإِنْ كَانَ فِعْلُ الشَّرْطِ لَيْسَ لَهُ مِنْهُ بُدٌّ لِوُجُودِ قَصْدِ الْإِبْطَالِ: إمَّا بِالتَّعْلِيقِ إنْ كَانَ فِي الْمَرَضِ، أَوْ بِمُبَاشَرَةِ الشَّرْطِ إنْ كَانَ التَّعْلِيقُ فِي الصِّحَّةِ، وَكَوْنُ الشَّرْطِ لَا بُدَّ مِنْهُ غَايَةَ مَا يُوجِبُ اضْطِرَارَهُ، وَالِاضْطِرَارُ فِي جَانِبِ الْفَاعِلِ لَا يَنْفِي الضَّمَانَ، كَمَنْ اُضْطُرَّ إلَى أَكْلِ مَالِ الْغَيْرِ أَوْ أَتْلَفَهُ نَائِمًا أَوْ مُخْطِئًا يَضْمَنُ وَإِنْ لَمْ يُوصَفْ فِعْلُهُ بِالظُّلْمِ، وَحَقُّهَا صَارَ مَعْصُومًا بِمَرَضِهِ فَاضْطِرَارُهُ إلَى إبْطَالِهِ يَرُدُّ عَلَيْهِ تَصَرُّفَهُ، إلَّا أَنَّ هَذَا حُكْمُ الْفِرَارِ مَعَ عَدَمِ الْفِرَارِ، وَمَا كَانَ مُوجِبَ الْمِيرَاثِ إلَّا الْفِرَارُ وَلَا فِرَارَ مَعَ عَدَمِ الْقَصْدِ.
وَقولهُ (وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مِنْ فِعْلِ الشَّرْطِ بُدٌّ فَلَهُ مِنْ التَّعْلِيقِ أَلْفُ بُدٍّ) رُبَّمَا يُعْطِي أَنَّ الْمَنْظُورَ إلَيْهِ فِي إثْبَاتِ حُكْمِ الْفِرَارِ إذَا كَانَ الشَّرْطُ لَا بُدَّ مِنْهُ التَّعْلِيقُ، وَيَسْتَلْزِمُ أَنْ لَا يَثْبُتَ الْفِرَارُ إلَّا أَنْ يَكُونَ التَّعْلِيقُ فِي الْمَرَضِ لَكِنَّ ثُبُوتَ الْفِرَارِ مَعَ كَوْنِ الشَّرْطِ لَا بُدَّ مِنْهُ فِي حَالَتَيْ كَوْنِ التَّعْلِيقِ فِي الْمَرَضِ أَوْ الصِّحَّةِ.
وَعَلَى الثَّانِي لَا يَسْتَقِيمُ النَّظَرُ إلَى التَّعْلِيقِ فِي إثْبَاتِ الْفِرَارِ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي حَالِ تَعَلُّقِ حَقِّهَا.
وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ إنَّهُ اضْطِرَارٌ جَاءَ مِنْهُ حَيْثُ عُلِّقَ بِمَا لَا بُدَّ مِنْهُ مَعَ عِلْمِهِ بِوُرُودِ أَسْبَابِ الْمَوْتِ، وَلِأَنَّهُ لِاضْطِرَارِهِ إلَى الشَّرْطِ يَفْعَلُهُ فَكَانَ حَالَ التَّعْلِيقِ رَاضِيًا بِالشَّرْطِ، بَلْ إنَّمَا عَلَّقَ لِيَفْعَلَ الشَّرْطَ وَيَقَعَ الْجَزَاءُ وَفِيهِ مَا فِيهِ.
وَأَمَّا التَّعْلِيقُ بِفِعْلِهَا فَإِنْ كَانَ التَّعْلِيقُ وَالشَّرْطُ فِي الْمَرَضِ وَالْفِعْلُ مِمَّا لَهَا مِنْهُ بُدٌّ كَكَلَامِ زَيْدٍ لَمْ تَرِثْ.
وَقولهُ (لِأَنَّهَا رَاضِيَةٌ بِذَلِكَ) أَيْ بِالطَّلَاقِ، إذْ الرِّضَا بِالشَّرْطِ رِضًا بِالْمَشْرُوطِ.
أَوْرَدَ عَلَيْهِ مَا لَوْ قَالَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ فِي الْعَبْدِ لِشَرِيكِهِ إنْ ضَرَبَتْهُ فَهُوَ حُرٌّ فَضَرَبَهُ يُعْتَقُ وَلِلضَّارِبِ تَضْمِينُ الْحَالِفِ فَقَدْ رَضِيَ بِالشَّرْطِ، وَلَمْ يَجْعَل ذَلِكَ رِضًا بِالْمَشْرُوطِ إذَا لَمْ يَكُنْ مُضْطَرًّا إلَى فِعْلِ الشَّرْطِ لَكِنَّهُ مُضْطَرٌّ فِي مَسْأَلَةِ الْإِعْتَاقِ فَإِنَّهَا مَوْضُوعَةٌ فِيمَا إذَا كَانَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ قَالَ إنْ لَمْ أَضْرِبْ هَذَا الْعَبْدَ الْيَوْمَ فَهُوَ حُرٌّ فَقَالَ لَهُ شَرِيكُهُ إنْ ضَرَبْتُهُ فَهُوَ حُرٌّ فَضَرَبَهُ فَلِلضَّارِبِ تَضْمِينُ الْحَالِفِ لِأَنَّهُ مُضْطَرٌّ إلَى فِعْلِ الشَّرْطِ، وَفِعْلُ الشَّرْطِ مُضْطَرًّا لَا يَدُلُّ عَلَى الرِّضَا.
وَأَجَابَ فِي الْكَافِي بِأَنَّ حُكْمَ الْفِرَارِ ثَبَتَ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ بِشُبْهَةِ الْعُدْوَانِ فَيَبْطُلُ بِمَا لَهُ شُبْهَةُ الرِّضَا، وَلَا كَذَلِكَ الضَّمَانُ، وَقَدْ وُجِدَ هُنَا شُبْهَةُ رِضَا الْمَرْأَةِ فَكَفَى لِنَفْيِ حُكْمِ الْفِرَارِ (وَإِنْ كَانَ الْفِعْلُ مِمَّا لَا بُدَّ لَهَا مِنْهُ كَأَكْلِ الطَّعَامِ وَالصَّلَاةِ الْوَاجِبَةِ وَكَلَامِ الْأَبَوَيْنِ) وَمِنْهُ قَضَاءُ الدَّيْنِ وَاسْتِيفَاؤُهُ وَالْقِيَامُ وَالْقُعُودُ وَالتَّنَفُّسُ فَلَهَا الْمِيرَاثُ لِأَنَّهَا مُضْطَرَّةٌ فِي الْمُبَاشَرَةِ.
قولهُ: (كَمَا فِي الْإِكْرَاهِ) بِأَنْ أَكْرَهَ إنْسَانًا عَلَى إتْلَافِ مَالٍ صَارَ الْمُكْرِهُ مُتْلِفًا حَتَّى يَضْمَنَ وَيَنْتَقِلَ الْفِعْلُ إلَيْهِ، فَكَذَا هُنَا، وَكَفِعْلِ الْقَاضِي فَإِنَّهُ يَنْتَقِلُ إلَى الشَّاهِدَيْنِ حَتَّى يَضْمَنَانِ إذَا رَجَعَا لِأَنَّهُ يَصِيرُ مَلْجَأً حَتَّى لَوْ لَمْ يَقْضِ يَفْسُقُ.
وَفِي مَبْسُوطِ فَخْرِ الْإِسْلَامِ: الصَّحِيحُ مَا قَالَهُ مُحَمَّدٌ.

متن الهداية:
قَالَ: (وَإِذَا طَلَّقَهَا ثَلَاثًا وَهُوَ مَرِيضٌ ثُمَّ صَحَّ ثُمَّ مَاتَ لَمْ تَرِثْ) وَقَالَ زُفَرُ رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ: تَرِثُ لِأَنَّهُ قَصَدَ الْفِرَارَ حِينَ أَوْقَعَ فِي الْمَرَضِ وَقَدْ مَاتَ وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ، وَلَكِنَّا نَقول: الْمَرَضُ إذَا تَعَقَّبَهُ بُرْءٌ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الصِّحَّةِ لِأَنَّهُ يَنْعَدِمُ بِهِ مَرَضُ الْمَوْتِ فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ لَا حَقَّ لَهَا يَتَعَلَّقُ بِمَالِهِ فَلَا يَصِيرُ الزَّوْجُ فَارًّا.
وَلَوْ طَلَّقَهَا فَارْتَدَّتْ وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ ثُمَّ أَسْلَمَتْ ثُمَّ مَاتَ الزَّوْجُ مِنْ مَرَضِهِ وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ لَمْ تَرِثْ، وَإِنْ لَمْ تَرْتَدَّ بَلْ طَاوَعَتْ ابْنَ زَوْجِهَا فِي الْجِمَاعِ وَرِثَتْ.
وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّهَا بِالرِّدَّةِ أَبْطَلَتْ أَهْلِيَّةَ الْإِرْثِ إذْ الْمُرْتَدُّ لَا يَرِثُ أَحَدًا وَلَا بَقَاءَ لَهُ بِدُونِ الْأَهْلِيَّةِ، وَبِالْمُطَاوَعَةِ مَا أَبْطَلَتْ الْأَهْلِيَّةَ لِأَنَّ الْمَحْرَمِيَّةَ لَا تُنَافِي الْإِرْثَ وَهُوَ الْبَاقِي، بِخِلَافِ مَا إذَا طَاوَعَتْ فِي حَالِ قِيَامِ النِّكَاحِ لِأَنَّهَا تُثْبِتُ الْفُرْقَةَ فَتَكُونُ رَاضِيَةً بِبُطْلَانِ السَّبَبِ، وَبَعْدَ الطَّلْقَاتِ الثَّلَاثِ لَا تَثْبُتُ الْحُرْمَةُ بِالْمُطَاوَعَةِ لِتَقَدُّمِهَا عَلَيْهَا فَافْتَرَقَا.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (فَلَا يَصِيرُ الزَّوْجُ فَارًّا) يَعْنِي الْفِرَارَ الْمُسْتَلْزِمَ لِلْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ الْخَاصِّ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ شَرْعًا بِالْإِبَانَةِ فِي حَالِ تَعَلُّقِ حَقِّهَا وَلَا يَتَعَلَّقُ إلَّا فِي مَرَضِ مَوْتِهِ، وَقَدْ ظَهَرَ خِلَافُهُ.
أَوْ نَقول: هُوَ بِطَلَاقِهِ فَارٌّ لَكِنَّ الْفِرَارَ إنَّمَا يُؤَثِّرُ فِي الْحُكْمِ الْمَذْكُورِ بِشَرْطِ ثُبُوتِ تَعَلُّقِ حَقِّهَا فَانْتَفَى شَرْطُ عَمَلِ الْعِلَّةِ.
قولهُ: (وَلَوْ طَلَّقَهَا) أَيْ بَائِنًا ثَلَاثًا أَوْ غَيْرَهُ فِي مَرَضِهِ، وَهَذَا لِأَنَّهُ فَرَّعَ عَلَى هَذَا الطَّلَاقِ نَفْسِهِ مَسْأَلَةَ الْمُطَاوَعَةِ وَقَالَ إنَّهَا تَرِثُ، وَلَا يَتَفَرَّعُ إرْثُهَا عَلَيْهِ إلَّا إذَا كَانَ بَائِنًا لِأَنَّهَا إذَا طَاوَعَتْهُ بَعْدَ الرُّجْعَى لَا تَرِثُ كَمَا لَوْ طَاوَعَتْهُ حَالَ قِيَامِ النِّكَاحِ.
قولهُ: (لَمْ تَرِثْ) بِخِلَافِ النَّفَقَةِ فَإِنَّهَا بِالرِّدَّةِ تَسْقُطُ ثُمَّ بِالْإِسْلَامِ تَعُودُ لِأَنَّهَا مُعْتَدَّتُهُ.
قولهُ: (لِأَنَّ الْمَحْرَمِيَّةَ لَا تُنَافِي الْإِرْثَ وَهُوَ الْبَاقِي) بَعْدَ ذَلِكَ الطَّلَاقِ وَلَمْ يُوجَدْ مَا يُزِيلُهُ لِأَنَّ الْمَحْرَمِيَّةَ لَا تُنَافِي الْإِرْثَ بَلْ تَثْبُتُ مَعَهُ كَمَا فِي الْأُمِّ وَالْبِنْتِ فَإِنَّمَا تُنَافِي النِّكَاحَ خَاصَّةً فَيَبْقَى الْإِرْثُ لِعَدَمِ الْمُزِيلِ فَمَرْجِعُ ضَمِيرِ وَهُوَ الْبَاقِي الْإِرْثُ.
قولهُ: (فِي حَالِ قِيَامِ النِّكَاحِ) أَيْ حَالَةَ الْمَرَضِ.
قولهُ: (فَتَكُونُ رَاضِيَةً بِبُطْلَانِ السَّبَبِ) وَهُوَ النِّكَاحُ وَذَلِكَ رِضًا بِبُطْلَانِ الْمُسَبِّبِ.
قولهُ: (لِتَقَدُّمِهَا عَلَيْهَا) أَيْ لِتَقَدُّمِ الْحُرْمَةُ عَلَى الْمُطَاوَعَةِ لِحُصُولِهَا بِالطَّلَاقِ السَّابِقِ عَلَيْهَا.

متن الهداية:
(وَمَنْ قَذَفَ امْرَأَتَهُ وَهُوَ صَحِيحٌ وَلَاعَنَ فِي الْمَرَضِ وَرِثَتْ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا تَرِثُ، وَإِنْ كَانَ الْقَذْفُ فِي الْمَرَضِ وَرِثَتْهُ فِي قولهِمْ جَمِيعًا) وَهَذَا مُلْحَقٌ بِالتَّعْلِيقِ بِفِعْلِ لَا بُدَّ لَهَا مِنْهُ إذْ هِيَ مُلْجَأَةٌ إلَى الْخُصُومَةِ لِدَفْعِ عَارِ الزِّنَا عَنْ نَفْسِهَا وَقَدْ بَيَّنَّا الْوَجْهَ فِيهِ (وَإِنْ آلَى وَهُوَ صَحِيحٌ ثُمَّ بَانَتْ بِالْإِيلَاءِ وَهُوَ مَرِيضٌ لَمْ تَرِثْ، وَإِنْ كَانَ الْإِيلَاءُ أَيْضًا فِي الْمَرَضِ وَرِثَتْ) لِأَنَّ الْإِيلَاءَ فِي مَعْنَى تَعْلِيقِ الطَّلَاقِ بِمُضِيِّ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ خَالِيَةٍ عَنْ الْوِقَاعِ فَيَكُونُ مُلْحَقًا بِالتَّعْلِيقِ بِمَجِيءِ الْوَقْتِ وَقَدْ ذَكَرْنَا وَجْهَهُ قَالَ: (وَالطَّلَاقُ الَّذِي يَمْلِكُ فِيهِ الرَّجْعَةَ تَرِثُ بِهِ فِي جَمِيعِ الْوُجُوهِ) لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ لَا يُزِيلُ النِّكَاحَ حَتَّى يُحِلَّ الْوَطْءَ فَكَانَ السَّبَبُ قَائِمًا.
قَالَ: (وَكُلُّ مَا ذَكَرْنَا أَنَّهَا تَرِثُ إنَّمَا تَرِثُ إذَا مَاتَ وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ) وَقَدْ بَيِّنَاهُ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَقَدْ بَيَّنَّا الْوَجْهَ فِيهِ) وَهُوَ قولهُ لِأَنَّهَا مُضْطَرَّةٌ فِي الْمُبَاشَرَةِ: أَيْ مُبَاشَرَةِ الشَّرْطِ، وَلَا رِضًا مَعَ الِاضْطِرَارِ كَذَا قِيلَ.
وَالْأَوْجَهُ كَوْنُهُ قولهُ بَعْدَ ذَلِكَ لِأَنَّ الزَّوْجَ أَلْجَأَهَا إلَى الْمُبَاشَرَةِ فَيَنْتَقِلُ الْفِعْلُ إلَيْهِ إلَخْ، لِأَنَّ الْأَوَّلَ ذَكَرَهُ فِي صُورَةِ مَا إذَا كَانَ التَّعْلِيقُ وَالشَّرْطُ فِي الْمَرَضِ، وَمَا ذَكَرْنَا ذَكَرَهُ فِي صُورَةِ مَا إذَا كَانَ التَّعْلِيقُ فِي الصِّحَّةِ وَالشَّرْطُ فِي الْمَرَضِ وَهُوَ الْمُوَازِنُ لِمَا نَحْنُ فِيهِ، فَإِنَّ الْقَذْفَ كَانَ فِي الصِّحَّةِ، وَاللِّعَانَ فِي الْمَرَضِ وَقولهُ (إذْ هِيَ مُلْجَأَةٌ إلَى الْخُصُومَةِ) ظَاهِرٌ فِي أَنَّ الْمُلْحَقَ بِفِعْلِهَا الشَّرْطُ الَّذِي لَا بُدَّ لَهَا مِنْهُ هُوَ خُصُومَتُهَا: أَيْ مُطَالَبَتَهَا بِمُوجَبِ الْقَذْفِ لِأَنَّهُ بِهِ يَنْدَفِعُ الْعَارُ، وَلَوْ جُعِلَ لِعَانُهَا صَحَّ أَيْضًا إذْ هِيَ مُلْجَأَةٌ إلَيْهِ مِنْ قِبَلِهِ إذْ لِعَانُهُ يُلْجِئُهَا إلَى لِعَانِهَا.
لَا يُقَالُ: هُوَ أَيْضًا مَلْجَأٌ إلَى لِعَانِهِ مِنْ قِبَلِهَا لِأَنَّ الْإِلْجَاءَ فِي الْكُلِّ يَعُودُ إلَيْهِ لِأَنَّهُ أَلْجَأَهَا إلَى الْخُصُومَةِ وَأَثَرُهَا لِعَانُهُ فَكَانَ لِعَانُهُ مَنْسُوبًا إلَى اخْتِيَارِهِ، فَهِيَ وَإِنْ بَاشَرَتْ آخِرَ جُزْأَيْ مَدَارِ الْفُرْقَةِ وَهُوَ مَا تَمَسَّك بِهِ مُحَمَّدٌ: يَعْنِي لِأَنَّ لِعَانَهَا آخِرُ اللِّعَانَيْنِ لَكِنَّ الزَّوْجَ اضْطَرَّهَا إلَيْهِ.
وَقِيلَ فِي وَجْهِ قول مُحَمَّدٍ الْفُرْقَةُ قَذْفُ الرَّجُلِ وَلَمْ يَكُنْ قَذَفَهُ فِي زَمَانِ تَعَلُّقِ حَقِّهَا بِمَالِهِ، وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ سَبَبٌ بَعِيدٌ.
ثُمَّ قِيلَ عَلَى الْأَوَّلِ إنَّ سَبَبَ الْفُرْقَةِ قَضَاءُ الْقَاضِي لَا اللِّعَانُ.
وَأُجِيبُ بِأَنَّهُ الْمُلْجِئُ لِلْقَاضِي إلَى الْحُكْمِ وَالْحُكْمُ لَا يَسْتَنِدُ إلَّا إلَى الشَّهَادَةِ وَاللِّعَانُ هُوَ الشَّهَادَةُ الْمُلْجِئَةِ.
قولهُ: (فَيَكُونُ مُلْحَقًا بِالتَّعْلِيقِ بِمَجِيءِ الْوَقْتِ) كَأَنَّهُ قَالَ فِي صِحَّتِهِ إذَا مَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَلَمْ أَقْرَبِك فَأَنْتِ طَالِقٌ بَائِنٌ فَمَضَتْ فِي مَرَضِهِ ثُمَّ مَاتَ فِيهِ لَا تَرِثُ، كَمَا لَوْ عَلَّقَ فِي صِحَّتِهِ بِأَمْرِ سَمَاوِيٍّ وَوُجِدَ الشَّرْطُ فِي الْمَرَضِ لَا يَكُونُ فَارًّا.
وَأَوْرَدَ عَلَيْهِ أَنَّ الْإِيلَاءَ فِي الصِّحَّةِ لَيْسَ مِثْلَ التَّعْلِيقِ بِمَجِيءِ الْوَقْتِ بَلْ نَظِيرُ مَا لَوْ وَكَّلَ فِي صِحَّته بِالطَّلَاقِ وَطَلَّقَهَا الْوَكِيلُ فِي الْمَرَضِ كَانَ فَارًّا لِأَنَّهُ مُتَمَكِّنٌ مِنْ عَزْلِهِ، فَإِذَا لَمْ يَعْزِلْهُ كَانَ فَارًّا كَذَا هُنَا هُوَ مُتَمَكِّنٌ مِنْ إبْطَالِ الْإِيلَاءِ فِي الْمَرَضِ بِالْفَيْءِ، فَإِذَا لَمْ يَفْعَلْ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ فَارًّا.
أُجِيبُ بِالْفَرْقِ بِأَنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ إبْطَالِ الْإِيلَاءِ إلَّا بِضَرَرٍ يَلْزَمُهُ، فَإِنَّ الْفَيْءَ بِاللِّسَانِ لَا يَجُوزُ إذَا كَانَ الْإِيلَاءُ فِي حَالِ الصِّحَّةِ، بَلْ إذَا كَانَ فِي حَالِ الْعَجْزِ وَاسْتَمَرَّ بِخِلَافِ عَزْلِ الْوَكِيلِ.
قولهُ: (فِي جَمِيعِ الْوُجُوهِ) أَيْ سَوَاءٌ كَانَ الطَّلَاقُ بِسُؤَالِهَا أَوْ لَا، أَوْ كَانَ التَّعْلِيقُ بِفِعْلِهَا أَوْ بِفِعْلِهِ، وَالْفِعْلُ مِمَّا لَهَا مِنْهُ بُدٌّ أَوْ لَمْ يَكُنْ لَا يُسْتَثْنَى مِنْ عُمُومِهِ إلَّا قِيَامُ الْعِدَّةِ فَإِنَّهُ مَشْرُوطٌ فِيهِمَا جَمِيعًا.
فُرُوعٌ:
قَالَ صَحِيحٌ لِمَوْطُوءَتَيْهِ إحْدَاكُمَا طَالِقٌ ثَلَاثًا ثُمَّ بَيَّنَ فِي مَرَضِهِ فِي إحْدَاهُمَا صَارَ فَارًّا بِالْبَيَانِ، وَتَرِثُ لِأَنَّهُ بَيَّنَ الطَّلَاقَ فِيهَا بَعْدَ تَعَلُّقِ حَقِّهَا بِمَالِهِ فَيُرَدُّ عَلَيْهِ قَصْدُهُ، كَمَا لَوْ أَنْشَأَ فَجَعَلَ إنْشَاءً فِي حَقِّ الْإِرْثِ لِلتُّهْمَةِ.
وَلَوْ مَاتَتْ إحْدَاهُمَا قَبْلَهُ ثُمَّ مَاتَ تَعَيَّنَتْ الْأُخْرَى وَلَمْ تَرِثْ لِأَنَّهُ بَيَانٌ حُكْمِيٌّ فَانْتَفَتْ التُّهْمَةُ عَنْهُ، كَمَا لَوْ عَلَّقَ فِي صِحَّتِهِ بِمَجِيءِ رَأْسِ الشَّهْرِ فَجَاءَ وَهُوَ مَرِيضٌ لَا تَرِثُ، بِخِلَافِ مَا قَبْلَهَا لِأَنَّهَا تَعَيَّنَتْ لِلطَّلَاقِ بِفِعْلِهِ فَتَرِثُ، كَمَا لَوْ عَلَّقَ فِي صِحَّتِهِ بِفِعْلِ نَفْسِهِ ثُمَّ بَاشَرَ الشَّرْطَ فِي الْمَرَضِ، فَإِنْ كَانَ لَهُ امْرَأَةٌ أُخْرَى غَيْرُ الثِّنْتَيْنِ فَلَهَا نِصْفُ الْإِرْثِ إذْ لَا يُزَاحِمُهَا إلَّا امْرَأَةٌ وَاحِدَةٌ لِأَنَّ إحْدَاهُمَا مُطَلَّقَةٌ بِيَقِينٍ وَالنِّصْفُ الْآخَرُ بَيْنَهُمَا لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الِاسْتِحْقَاقِ، وَلَوْ مَاتَتْ الَّتِي بَيَّنَ طَلَاقَهَا قَبْلَ مَوْتِهِ لَمْ تَرِثْ مِنْهُ وَصَحَّ الْبَيَانُ فِيهَا لِانْتِفَاءِ التُّهْمَةِ عَنْ بَيَانِهِ بِخُرُوجِهَا عَنْ أَهْلِيَّةِ الْإِرْثِ بِالْمَوْتِ، وَكَانَ الْإِرْثُ لِلْأُخْرَى لِأَنَّ التَّعْيِينَ دُونَ الْإِنْشَاءِ، وَلَوْ أَنْشَأَ فِي مَرَضِهِ ثُمَّ مَاتَتْ الْمُطَلَّقَةُ كَانَ جَمِيعُ الْإِرْثِ لِلْأُخْرَى، كَذَا هُنَا.
وَلَوْ كَانَتْ لَهُ امْرَأَةٌ أُخْرَى كَانَ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ وَإِنْ مَاتَتْ الْأُخْرَى وَبَقِيَتْ الَّتِي بَيَّنَ الطَّلَاقَ فِيهَا ثُمَّ مَاتَ الزَّوْجُ لَهَا نِصْفُ الْإِرْثِ لِأَنَّ الْبَيَانَ إنَّمَا بَطَلَ صِيَانَةً لِحَقِّهَا الثَّابِتِ ظَاهِرًا وَحَقُّهَا الثَّابِتُ ظَاهِرًا وَقْتَ الْبَيَانِ النِّصْفُ فَلَمْ تَزِدْ عَلَيْهِ وَهَذَا لِأَنَّهَا مَنْكُوحَةٌ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ فَلَا تَسْتَحِقُّ إلَّا النِّصْفَ، حَتَّى لَوْ كَانَ مَعَهَا امْرَأَةٌ أُخْرَى كَانَ لَهَا الرُّبْعُ وَثَلَاثَةُ الْأَرْبَاعِ لِلْمَرْأَةِ الْأُخْرَى، لِأَنَّنَا إنَّمَا أَبْطَلْنَا الْبَيَانَ صِيَانَةً لِحَقِّهَا الثَّابِتِ وَقْتَ الْبَيَانِ وَوَقْتَ الْبَيَانِ حَقُّهَا فِي الرُّبْعِ فَكَانَ لِلْمُعَيَّنَةِ الرُّبْعُ، وَلِأَنَّ الْأُخْرَى مَنْكُوحَةٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَتَسْتَحِقُّ كُلَّ الْإِرْثِ وَهِيَ مَنْكُوحَةٌ مِنْ وَجْهٍ فَتَسْتَحِقُّ نِصْفَهُ، فَسَلِمَ النِّصْفُ لِلْأُخْرَى بِلَا مُنَازَعَةٍ وَاسْتَوَتْ مُنَازَعَتُهُمَا فِي النِّصْفِ الْآخَرِ فَيَتَنَصَّفُ بَيْنَهُمَا، فَإِنْ لَمْ يَمُتْ الزَّوْجُ وَلَمْ يُبَيِّنْ حَتَّى وَلَدَتْ إحْدَاهُمَا لِأَقَلِّ مِنْ سَنَتَيْنِ فَهُوَ لَيْسَ بِبَيَانٍ وَبَقِيَ الزَّوْجُ عَلَى خِيَارِهِ لِأَنَّ الْعَلُوقَ يَحْتَمِلُ كَوْنَهُ بِوَطْءٍ قَبْلَ الطَّلَاقِ وَذَا لَا يَصْلُحُ بَيَانًا فَلَا يَكُونُ بَيَانًا بِالشَّكِّ إذْ لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ بِالشَّكِّ وَيَثْبُتُ النَّسَبُ لِاحْتِمَالِ الْعَلُوقِ قَبْلَ الطَّلَاقِ، فَإِنْ نَفَى الزَّوْجُ هَذَا الْوَلَدَ أُمِرَ بِالْبَيَانِ، فَإِنْ قَالَ عَنَيْت عِنْدَ الْإِيقَاعِ الَّتِي لَمْ تَلِدْ يُلَاعَنُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الَّتِي وَلَدَتْ وَيُقْطَعُ نَسَبُ الْوَلَدِ مِنْهُ وَيُلْحَقُ بِالْأُمِّ لِأَنَّهُ قَذَفَ مَنْكُوحَتَهُ، وَإِنْ قَالَ عَنَيْت الَّتِي وَلَدَتْ يُحَدُّ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ مُرَادُهُ وَقْتَ الْإِيقَاعِ الَّتِي وَلَدَتْ وَقَعَ الطَّلَاقُ مِنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ قَذَفَ أَجْنَبِيَّةً فَيَجِبُ الْحَدُّ وَيَثْبُتُ النَّسَبُ لِعَدَمِ اللِّعَانِ.
فَإِنْ قَالَ لَمْ أَعْنِ عِنْدَ الْإِيقَاعِ أَحَدًا وَلَكِنْ أُرِيدُ بِالْمُبْهَمِ الَّتِي وَلَدَتْ لَا يُحَدُّ لِأَنَّهُ قَذَفَ مَنْكُوحَتَهُ لِأَنَّ الطَّلَاقَ يَقَعُ وَقْتَ التَّعْيِينِ وَلَا يُلَاعِنُ أَيْضًا لِأَنَّ شَرْطَهُ قِيَامُ النِّكَاحِ وَقَدْ زَالَ بِالْبَيَانِ وَالنَّسَبُ ثَابِتٌ لِمَا مَرَّ، وَإِنْ وَلَدَتْ لِأَكْثَرِ مِنْ سَنَتَيْنِ مِنْ وَقْتِ الْإِيقَاعِ تَعَيَّنَتْ الْأُخْرَى لِلطَّلَاقِ لِتَيَقُّنِنَا بِالْوَطْءِ بَعْدَ الطَّلَاقِ، وَحُكْمُ الشَّرْعِ بِثُبُوتِ النَّسَبِ مِنْهُ حُكْمٌ يَكُونُ الْوَطْءُ مِنْهُ ضَرُورَةً، وَالْوَطْءُ بَعْدَ الطَّلَاقِ الْمُبْهَمِ بَيَانٌ إجْمَاعًا وَتَعَيَّنَتْ الَّتِي وَلَدَتْ لِلنِّكَاحِ، فَإِنْ نَفَى الْوَلَدَ لَاعَنَ وَلَا يَنْقَطِعُ النَّسَبُ عَنْهُ لِأَنَّ حُكْمَ الشَّرْعِ بِالْعَلُوقِ مِنْهُ مَانِعٌ مِنْ قَطْعِ النَّسَبِ عَنْهُ، فَإِنْ وَلَدَتْ إحْدَاهُمَا لِأَقَلِّ مِنْ سَنَتَيْنِ مِنْ وَقْتِ الْإِيقَاعِ وَالْأُخْرَى وَلَدَتْ لِأَكْثَرَ مِنْ سَنَتَيْنِ تَعَيَّنَتْ صَاحِبَةُ الْأَقَلِّ لِلطَّلَاقِ لِأَنَّ وَطْأَهَا لَا يَصْلُحُ بَيَانًا وَوَطْءُ صَاحِبَةِ الْأَكْثَرِ يَصْلُحُ بَيَانًا، وَهَذَا لِأَنَّ الْمَوْلُودَ لِأَكْثَرَ مِنْ سَنَتَيْنِ حَصَلَ بِعَلُوقٍ بَعْدَ الطَّلَاقِ الْمُبْهَمِ بِيَقِينٍ لِأَنَّ الْوَلَدَ لَا يَبْقَى فِي الْبَطْنِ أَكْثَرَ مِنْ سَنَتَيْنِ، أَمَّا عَلُوقُ الْأُخْرَى فَمَشْكُوكٌ فِيهِ فَلَا يَكُونُ بَيَانًا، وَعِدَّةُ صَاحِبَةِ الْأَقَلِّ تَنْقَضِي بِوَضْعِ الْحَمْلِ إنْ كَانَ بَيْنَ وِلَادَتِهَا وَبَيْنَ وِلَادَةِ صَاحِبَةِ الْأَكْثَرِ بَعْدَهَا أَكْثَرُ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ لِتَيَقُّنِنَا أَنَّ عَلُوقَ صَاحِبَةِ الْأَكْثَرِ وَوَطْأَهَا كَانَ قَبْلَ وِلَادَةِ صَاحِبَةِ الْأَقَلِّ وَقَبْلَ الْوِلَادَةِ هِيَ حَامِلٌ وَعِدَّةُ الْحَامِلِ تَنْقَضِي بِوَضْعِ الْحَمْلِ، وَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا سِتَّةُ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا فَعِدَّةُ صَاحِبَةِ الْأَقَلِّ بِالْحَيْضِ لِاحْتِمَالِ أَنَّ وَطْءَ صَاحِبَةِ الْأَكْثَرِ كَانَ بَعْدَ وِلَادَةِ صَاحِبَةِ الْأَقَلِّ، وَإِذَا احْتَمَلَ ذَلِكَ وَجَبَتْ الْعِدَّةُ بِالْحَيْضِ احْتِيَاطًا، وَإِنْ أَقَرَّ الزَّوْجُ بِوَطْءِ صَاحِبَةِ الْأَقَلِّ أَوَّلًا طَلُقَتْ صَاحِبَةُ الْأَكْثَرِ بِإِقْرَارِهِ.
وَلَا يَصْدُقُ فِي صَرْفِ الطَّلَاقِ عَنْ صَاحِبَةِ الْأَقَلِّ فَطَلُقَتَا، كَمَنْ قَالَ زَيْنَبُ طَالِقٌ وَلَهُ امْرَأَةٌ مَعْرُوفَةٌ بِهَذَا الِاسْمِ فَقَالَ لِي امْرَأَةٌ أُخْرَى بِهَذَا الِاسْمِ وَعَنَيْتهَا طَلُقَتَا، وَإِنْ وَلَدَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ لِأَكْثَرَ مِنْ سَنَتَيْنِ مِنْ وَقْتِ الْإِيقَاعِ وَبَيْنَ الْوِلَادَتَيْنِ يَوْمٌ أَوْ أَكْثَرُ فَوِلَادَةُ الْأُولَى تَكُونُ بَيَانًا لِلطَّلَاقِ فِي الْأُخْرَى، فَإِذَا وَلَدَتْ الْأُخْرَى بَعْدَهُ لَا يَتَحَوَّلُ الطَّلَاقُ الْوَاقِعُ عَلَيْهَا إلَى غَيْرِهَا، وَصَارَ كَمَا إذَا وَطِئَ إحْدَاهُمَا ثُمَّ الْأُخْرَى يَقَعُ الطَّلَاقُ عَلَى الْمَوْطُوءَةِ آخِرًا كَذَا هُنَا، وَثَبَتَ نَسَبُ الْوَلَدَيْنِ.
أَمَّا وَلَدُ الْأُولَى فَظَاهِرٌ، وَكَذَا وَلَدُ الثَّانِيَةِ لِاحْتِمَالِ وَطْئِهَا قَبْلَ عَلُوقِ الْأُولَى، وَتَنْقَضِي عِدَّةُ الْمُطَلَّقَةِ بِوَضْعِ الْحَمْلِ.
وَلَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ إذَا وَلَدْت وَلَدًا فَأَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا فَوَلَدَتْ وَلَدًا ثُمَّ وَلَدًا آخَرَ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا ثَبَتَ نَسَبُ الْوَلَدِ الثَّانِي مِنْهُ أَيْضًا وَتَنْقَضِي بِهِ الْعِدَّةُ لِأَنَّا حَكَمْنَا بِعَلُوقِ الْوَلَدِ الثَّانِي حَالَ وُقُوعِ الطَّلَاقِ وَحَالَ وُقُوعِ الطَّلَاقِ الزَّوْجِيَّةُ قَائِمَةٌ، وَهَذَا لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ وَطِئَهَا قَبْلَ وِلَادَةِ الْوَلَدِ الْأَوَّلِ وَلَمْ يَصِلْ الْمَاءُ إلَى رَحِمِهَا لِانْسِدَادِ فَمِهِ، فَإِذَا وَضَعَتْ الْحَمْلَ انْفَتَحَ فَمُ الرَّحِمِ وَوَصَلَ الْمَاءُ إلَيْهِ فَعَلَقَ الْوَلَدُ الثَّانِي قَبْلَ وُقُوعِ الثَّلَاثِ، لِأَنَّ تِلْكَ الْحَالَ حَالُ نُزُولِ الثَّلَاثِ وَالشَّيْءُ فِي نُزُولِهِ غَيْرُ نَازِلٍ فَيَثْبُتُ النَّسَبُ احْتِيَاطًا فَيَتَعَلَّقُ انْقِضَاءُ الْعِدَّةِ بِوَضْعِ الْحَمْلِ، وَلَا يَجِبُ الْعُقْرُ لِأَنَّا جَعَلْنَاهُ مُعَلَّقًا حَالَ قِيَامِ النِّكَاحِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ مِنْ الْكَافِي.